بورتسودان مدينة يأكلها الصدأ ويقتلها العطش
بقلم: د.م.م. أمجد عثمان عبد اللطيف
احاول (نزحاً) من الزمن أن أستنطق قلمي للكتابة عن مشاهداتي في مدينة بورتسودان في تجربة اعتبرها قصيرة برغم كفايتها الهندسية.
|
مبنى من الخشب في وسط المدينة |
يعود تاريخ انشاء مدينة بورتسودان لعام 1904، بناها الانجليز لتكون ميناءً بديلاً لميناء سواكن. فمبانيها القديمة تتمتع بطراز فريد لا يشبه بقية المدن السودانية فغالب دواوينها الحكومية بنيت من الحجر الرملي أو المرجاني أو البازلت وما زالت تحافظ على اناقتها ليومنا هذا بيد أن بعض الأيادي شوهت هذه الأناقة في بعض معانيها فطالها من صيانات وبياض ورفع أسوار في الآونة الآخيرة في بعض الدواوين الحكومية التي خصصت للحكومة الخرطوم فطمست معالم وسط المدينة التاريخية.
الطابع الانشائي لسوق المدينة غالبه من الأقواس ونظامها الإنشائي هو الحوائط الساندة. تتفرق هنا وهناك بعض المباني من الخشب في بعض احيائها ودواوينها.
وصف السير هبرت بورتسودان في 1939 أن أبرز تحدياتها بأنها الماء وحمى الضنك ذاكرا انهم يمموا وجههم مرسى الشيخ برغوث (برؤوت) بعدما تبين وجود مصدر طبيعي للمياه ما يعرف اليوم بخور أربعات. بنوا سداً صغيراً بالقرب من المنطقة. واجهته في ذلك الحين مشاكل الطمي التي ما زالت المهدد لأي سد في تلك المنطقة حتى يومنا هذا وما تفجير السد الثالث ببعيد وما إنهيار سدا أربعات ذات ليلة سوداء من ليالي أغسطس الحار من العام 2024 الا لذلك الطمي والنحر من الوريد الى الوريد.
كل ما بني من حجر - سواء من مقالع المنقبة او ديم حجر - ما زال يحافظ على القه وشموخ كشموخ ذلك الكابولي الفريد في محطة السكة الحديد مشرعاً كفتيه كجناح طائر (مخزن الملح حالياً ... الذي حتما سيقصر أجله).
فنجد أن مباني مثل مباني السجن أو الجمارك أو بيوت السكة حديد أو وزارة التربية والتعليم وبعض من مخازن الميناء ما زالت بهيجة لم يصبها مناخ المدينة الكالح بسوء كما أصابت الأملاح والرطوبة والتجوية القاسية الطوب الأسمنتي ردئ الصناعة الذي تركته الرطوبة والأملاح اجوفاً نخراً كأنه بيوت زنبور.
|
تآكل الطوب بفعل التجوية |
صيفها حار تشعر وكأنك داخل (حلة بريستو) شتاءها لطيف مطره خفيف كأنه (رشة مكوة) يذهب معاناة صيفها من نقص في إمداد كهرباء وقلة ماء. تجد غالب مستجده يتوضأ بالماء المالح من الآبار كما يستخدم في الأغراض غير الشرب في بعض المنازل تلافياً للتقليل من كلفة شراء الماء الذي تحمله الدواب وغيرها. في بورتسودان تنتشر مهنة تجارة المياه والسقيا، فتجد الشخص يملك آبار مياه ومن يملك تذاكر لنقل المياه أو قربة (راوية صحراء) أو كارو لنقل المياه. تجدر الاشارة الى ظهور ايجابي (برغم غياب ضبط الجودة) رائج لمحطات تحلية المياه الصغيرة خصوصاً في مدينة توقفت فيها مساهمة حكومتها في قطاع التحلية كما هو الحال في العديد من المدن الساحلية. لا تحس ابدا أن هناك ارادة حقيقية لحل المشكلة برغم وضوحها فهناك من يعيش على عذه الأزمة التي لو حلت لأصبح عدد مقدر من سكان المدينة بلا عمل. ولا تستغرب، ففي الجهة الأخرى الدراسات تشير إلى أن تكلفة المياه قد تتجاوز نصف الدخل في بعض ديوم المدينة.
|
مبنى وزارة التربية والتعليم |
لا حديث لأهل بورتسودان الا الحديث عن تلكم الفاتنة الساحرة (اسماء) يتابعون حركاتها وسكناتها بين الفينة والأخرى ويدعون ربهم أن يوفقها امرها، في توفير الوقود للبارجة المستأجرة التي تشكل مصدر إمداد رئيسي للكهرباء إذ أخرجت المحطة القديمة ولم تكتمل المحطة الجديدة (كلانييب) حتى الآن. لذا يمم أهل المدينة وجههم شطر مولدات الديزل التي لا يكاد يخبو ضجيجها يعلو دخانها، اصلو كهربة الحكومة ممحوقة و ما عليها تكل في الصيف.
من الجميل حقاً أنه في الآونة الآخيرة وجدت الطاقة الشمسية قبولا جيدا في المدينة وبدأت تنتشر بإستحياء وحذر كم من الجميل أن يتم تعميمها في الجامعات والمدارس ودواوين الدولة.
|
تموذج لصدأ الحديد في مبنى |
كمدبنة ساحلية، يميزها ذلك المناخ القاسي على إنشاءات الخرسانة المسلحة بالحديد. إذ يتفشى الصدى في معانيها كما يتفى السرطان في الجسد المنهك ويفتك بها فتكاً ويأكلها أكلاً. المدينة بها من الأملاح من كلوريدات وكبريتات مشبعة بها التربة ومحملا بها الهواء تهاجم هذه المباني وتضعف الكبريتات خرسانتها وتهاجم الكلوريدات حديدها فيصيبها الصدأ الذي يزيد مساحة الحديد حتى عشرة أضعاف فتضيق به الخرسانه فيشققها ويفجرها ويتركها من غير غطاء ليأكل الصدأ ما تبقى من حديدها فما يتركه الا كمثل ضنب الفار في سمكه والبسكويت في هشاشته. المباني في بورتسودان غير معمرة و ذات ديمومة قصيرة، فأهل المدينة يبنون الخرسانة مثل أهل الخرطوم فلا المناخ هو المناخ ولا البحر هو النهر فلو يمموا وجههم شرقاً لنجوا ونجت مبانيهم. كان حرياً بهم أن يبنوا مثل أهل المدن الساحلية في جدة والخليج وغيرها. وأن يستخدموا الحديث من كيماويات البناء والعوازل وحماية الرطوبة وتقنيات المواد.
|
صدأ في مبنى وسط المدينة |
لا يكاد يخلو طريق من مبنى اصابه صدأ الحديد، تكثر انهيارات المباني في المدينة بفعل الصدأ وتسقط البلكونات واللوحات الإعلانية ويموت فيها الناس، فمن نجى من الصدأ في مباني الخرسانة لم يسلم من الحريق في مباني الخشب او بسبب التوصيلات العشوائية للكهرباء وعدم الاستيفاء بمتطلبات السلامة.
تحتاج قبيلة المهندسين في بورتسودان ومن هم في أمر الدولة والأساتذة في كلية الهندسة بجامعة البحر لتضافر الجهود. فالمدينة تحتاج إلى لوائح بناء صارمة يجب أن يتداعى لوضعها الاطياف الهندسية و مواصفات ملزمة لمواد البناء والمياه. أما أمر الأمن المائي في بورتسودان فيحتاج الكثير من الجدية والتفكير في حلول جذرية ومستدامة.
ونواصل إن عادت الهمة.
#للإطلاع على المقال منسقاً: بورتسودان مدينة يأكلها الصدأ ويقتلها العطش ... بقلم: د.م.م. أمجد عثمان عبد اللطيف - سوداكون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق