سلسلة مقالات تحديات عملية تطوير شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة
بقلم: د. مهندس مستشار/ مالك علي محمد دنقلا
(3) التمويل و الضمانات لشركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة بين المشاكل والحلول
تعد الشركات الصغيرة والمتوسطة الداعم الرئيسي للنمو والتطور الاقتصادي على الصعيد العالمي، لما لها من دور حيوي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتخفيف البطالة ومحاربة الفقر، وتنويع مصادر الناتج المحلى الإجمالي، لا سيما في البلدان النامية؛ حيث فرضت نفسها على أجندة الاقتصاديين والسياسيين في العالم العربي عامة، كما اكتسبت اهتمامًا متزايدًا في جميع أنحاء العالم بعد الدور الذي لعبته في إعادة بناء اقتصادات البلدان المهزومة في الحرب العالمية.
وتشكل الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر من 98% من القطاع الخاص في العالم الغربي والافريقي، كما توفر نحو 60% من مجموع فرص العمل، وتساهم بنسبة تصل إلى 40% من الدخل القومي في الاقتصادات الناشئة، مع ملاحظة أن هذه الأرقام تكون أعلى بشكل ملحوظ عندما يتم تضمين الشركات الصغيرة والمتوسطة غير الرسمية.
ونظراً لحجم مساهمة هذه الشركات في الناتج المحلي فإن ازدهارها واستقرارها ينعكس بالضرورة إيجاباً أو سلبًا على الاقتصاد الوطني لمعظم دول العالم، حيث أنه - ووفقًا لتقديرات البنك الدولي - ستكون هناك حاجة إلى 600 مليون وظيفة بحلول عام 2030م؛ لاستيعاب القوى العاملة العالمية المتزايدة، مما يجعل لتنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة أولوية عالية للعديد من الحكومات، ويصبح من المهم تدارس المشاكل والصعوبات التي تواجهها هذه الشركات.
تناولنا في المقالين السابقين التحديات التي تواجهها شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة في سبيل تطوير أنفسها ومواكبة المتغيرات المتعددة التي تطرأ على قطاع التشييد والذي هو قطاع ديناميكي متحرك، وأشرنا في المقال الأول لتحدي اكتساب الشركة للتصنيف الذي يناسبها، وفي المقال الثاني تناولنا التحدي الضخم المتعلق بتدني قدرتها على توفير منظومة الأمن والصحة والسلامة المهنية في مواقع العمل.
وفي هذا المقال نتناول تحديات النفاذ إلى التمويل، والتي تمثل واحدة من أهم المشكلات التي تواجه شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة خاصة في الدول العربية والإفريقية، سواء لعدم توافر الضمانات الكافية أو لفقدان أصحاب هذه المشروعات للجدارة الائتمانية.
ويرجع كون اعتبار صعوبة الوصول للتمويل التحدي الأكبر بين كل هذه التحديات، إلى حقيقة أن انخفاض رأس المال الخاص بتلك الشركات يهددها بالفشل، ويقلل من فرصتها في الصمود والنمو؛ حيث تعد مواردها الذاتية غير كافية للوفاء بمتطلبات عمليات التشغيل الجاري والإحلال والتجديد، الأمر الذي يجعلها تعمل في حدود الإمكانيات المالية المحدودة، مما يحد من قدرتها على دفع عجلة النمو الاقتصادي، ويتسبب في تعثر مشاريع الدولة والمواطنين.
ويمثل تقديم الضمانات المطلوبة العقبة الكبرى أمام تطور ونمو شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة، حيث إن هذه الضمانات تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، وهي: الضمان الابتدائي، وضمان حسن التنفيذ والذي يتحول لضمان صيانة المشروع، وضمان المقدم المدفوع وهو مقدم كبير يتجاوز العشرة بالمائة وذلك تفادياً لتقلبات سعر الصرف، كما يأتي طلب المؤسسات المالية لنسبة كبيرة مقابل إصدار خطابات الضمان، إضافة إلى الرسوم البنكية الباهظة التي تبلغ 4% سنوياً، بجانب ارتفاع أسعار الفائدة وتعقيد الإجراءات وزيادة الأوراق الإدارية المطلوبة والدمغة الضريبية التي تبلغ أيضا 4% سنوياً كعقبات إضافية.
فمن وجهة نظر البنوك يعتبر منح الائتمان للشركات الكبيرة أقل مجازفة لأنها أكثر استقراراً وأقل عرضة للمخاطرة، ولها سجلات متاحة ومعلومات منظمة، وبياناتها المالية واضحة ويسهل الوصول إليها، وهي أكثر ربحية، عكس الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر أقل استقراراً، وأقل ربحية، وأكثر عرضة للمخاطرة، وسجلاتها غير متاحة، وليس لديهم معلومات محاسبية واضحة، إلى جانب مشاكل أخرى من قبيل ضعف الإدارة، ونقص الوثائق التجارية، مثل التسجيل والتراخيص والبطاقات الضريبية، وانخفاض الثقة في البيانات المالية والأداء المالي لتلك الأعمال التي تبلغ نسبتها 70%، لذا تفضل البنوك ومؤسسات التمويل تخصيص مواردها للشركات الكبيرة.
وكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك هو أن 90% من الشركات الصغيرة والمتوسطة لا تتعامل مع البنوك، فبناءً على التقديرات لا تتعدى نسبة الإقراض البنكي للشركات الصغيرة والمتوسطة في معظم الدول 2% فقط من إجمالي قروض القطاع المصرفي، وبالإضافة إلى ذلك يتم رفض طلبات الحصول على القروض لما يتراوح بين 50% إلى 70% من الشركات الصغيرة والمتوسطة، وفي حال استطاعت بعض هذه الشركات الحصول على القروض، فإن معدلات الفائدة واشتراطات الضمان الإضافي تفوق قدراتها.
وفى السياق ذاته، لا تمثل التسهيلات المُقدمة إلى الشركات الصغيرة سوى 9% من إجمالي التسهيلات المصرفية، حيث تقدر مؤسسة التمويل الدولية أن 65 مليون شركة، أو 40% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في البلدان النامية، لديها احتياجات تمويل غير ملباة تبلغ 5.2 تريليون دولار كل عام، وأن ما يقرب من نصف الشركات الصغيرة والمتوسطة لا يمكنها الوصول إلى الائتمان الرسمي، وبدلاً من ذلك، يعتمدون على الأموال الداخلية، أو الأموال النقدية من الأصدقاء والعائلة، بل حتى في حالة الحصول على تمويل ما؛ فإن صاحب الشركة الصغيرة أو المتوسطة يجد نفسه أمام معضلة جديدة، تتمثّل في انخفاض القيمة المادية التي حصل عليها، والتي لا تتناسب مع الاحتياجات الخاصة بمشروعه.
معوقات التمويل:
يمكن القول أن إشكالية التمويل ترجع في الأساس إلى العديد من المعوقات نجملها فيما يلي:
(1) ضعف رؤوس أموال الشركات الصغيرة والمتوسطة التي يديرها المواطنون، ما يعرضها للاختفاء سريعاً.
(2) افتقار تلك الشركات إلى ثقافة إعداد التقارير المالية، نتيجة الهياكل التنظيمية الضعيفة وغياب التوعية المالية، وضعف القدرات الفنية والإدارية، وعدم القدرة على إعداد دراسات جدوى، وخطط عمل واضحة على المستوى الذي تطلبه الجهات المقرضة.
(3) افتقاد عنصر الثقة في القدرات والمهارات الشخصية في القائمين على هذه الشركات، ومحدودية الخبرات نتيجة الطابع المؤقت للشركات الصغيرة والمتوسطة؛ ما يصعب الحصول على البيانات طويلة الأجل.
(4) افتقاد تلك الشركات للعقود العامة والعقود ذات المبالغ الكبيرة التي تمنحها استقرار ورؤية مستقبلية وتوقعات بعيدة المدى، وكذلك تفتقد للعلاقات مع الشركات الكبيرة والشركات الأجنبية التي تقدم الدعم من خلال شبكتها من المعارف.
(5) وجود عدد من هذه الشركات خارج المنظومة الرسمية يضاعف من حجم التحديات التي تحول دون نفاذها إلى التمويل في ظل عدم توفر تاريخ ائتماني أو تاريخ مالي موثق.
(6) ضعف قدرة الشركات الصغيرة والمتوسطة على تدبير نسبة موارد ذاتية مقبولة لدى مؤسسات التمويل.
(7) ضعف القدرة على بناء هياكل الإدارة الداخلية؛ مما يعيق من الوصول إلى متطلبات جهات التمويل أو الوصول إلى هذه الجهات من حيث الأساس وبالتالي عدم نمو رأس المال.
(8) لا تمتلك بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة معلومات كافية عن المؤسسات التمويلية ومصادر وطرق التمويل غير البنكية.
(9) موظفو القروض بالبنوك عادة ليست لديهم الخبرة التي تؤهلهم لتقييم مقترحات الشركات الصغيرة والمتوسطة؛ مما يؤدي إلى ارتفاع مخاطر الائتمان، إضافة إلى عدم نشر الوعي الكافي بكيفية استخدام أدوات الضمانات المتاحة لتخفيف مخاطر التمويل.
حلول نفاذ الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل:
يمكن تطبيق مجموعة واسعة من الحلول منها الآتي:
(1) إطلاق حزم تمويلية مخصصة للشركات الصغيرة والمتوسطة تقدم من خلال البنوك التجارية، بحيث تشمل إنشاء مؤسسات تمويلية متخصصة تمولها الحكومة وتأسيس صناديق استثمارية تؤسسها الحكومة مع شركات القطاع الخاص وكبار رجال الأعمال، على أن يوجه عائد هذه الصناديق لتمويل أصحاب المشاريع في صورة قروض ميسرة من دون فوائد لسد الثغرات التمويلية.
(2) حشد برامج تمويل لقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة بأسعار فائدة منخفضة فضلاً عن ضمانات للقروض الممنوحة، وتسهيل وتيسير إجراءات ومتطلبات التمويل، وتوفير طريقة السداد المرنة لفترات أطول مما هو متاح بشكل عام في السوق.
(3) دعم ومشاركة منصات تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة وتشجيع الاستثمار فيها والعمل على إيجاد صيغة تشريعية لممارسة أعمالها، وإطلاق نظامٍ بديلٍ لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز قدرات مكاتب الإقراض الائتماني، وتطوير نظامٍ بيئي لتمويل رأس المال، وإنشاء هيكلٍ أساسي تجاري للقروض المعطلة.
(4) إدخال الابتكار في تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة مثل منصات الإقراض الإلكتروني، واستخدام البيانات البديلة لاتخاذ قرارات الائتمان، والفوترة الإلكترونية، والعوملة الإلكترونية، وتمويل سلسلة التوريد.
(5) تطبيق حصص إقراضٍ محددةٍ للشركات الصغيرة في البنوك مدعومة من مخططات الضمان أو أي مخططات حوافز أخرى، وتخفيف شروط الإبلاغ المالي، ووضع اللوائح التنظيمية والسياسيات الواضحة لتعزيز تبني التكنولوجيا المالية.
(6) تأسيس وحدات بنكية مخصصة للشركات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير مهارات موظفي البنوك لدراسة وتقييم معدل المجازفة لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل أكبر، وتقديم خدمات استشارية لدعم هذه الشركات في جميع المراحل.
(7) تشجيع الاعتماد على سجل الضمانات المنقولة لتيسير الحصول على التمويل وتخفيض تكلفة التمويل.
(8) زيادة مجهودات التثقيف المالي بشأن آليات الضمانات المختلفة، سواء لدى جهات التمويل أو لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتركيز على الممارسات التي تهدف إلى خفض كلفة مخاطر الائتمان الموجه إلى قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
(9) إنشاء مؤسسة ضمان ائتمان، تهدف إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة خاصة تلك التي لا تمتلك ضمانات أو سجل متابعة للحصول على تسهيلات ائتمانية من المؤسسات المالية بتقديم ضمانات لتغطية تلك التسهيلات.
(10) توفير بيانات وتقارير عن الشركات الصغيرة والمتوسطة للمساعدة على تقييم الجدارة الائتمانية من خلال تجميع المعلومات الأساسية عن أداء الشركة وتاريخ مدفوعاتها.
(11) التركيز على آليات دمج الشركات الصغيرة والمتوسطة في إطار الاقتصاد الرسمي بهدف تيسير فرص نفاذ هذه المشروعات للائتمان.
(13) انشاء إدارة متخصصة بالبنوك بها موظفون مدربون على التعامل مع العملاء من الشركات الصغيرة والمتوسطة، بحيث يستطيعون فهم احتياجاتهم، واستيعاب المشاكل والعقبات التي تواجههم وكيفية معالجتها.
(14) الاستفادة من تنامى سوق التمويل الإسلامي، ومن تميز موقع الدول العربية وصدارتها لنشاط التمويل الإسلامي؛ لتغطية جانب من فجوة تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، لا سيما في ضوء الطلب الكبير من قبل هذه الشركات على منتجات التمويل المتوافقة مع الشريعة.
(15) تحسين البنية التحتية للائتمان (أنظمة الإبلاغ عن الائتمان والمعاملات المضمونة وسجلات الضمانات وأنظمة الإعسار)، والتي يمكن أن تؤدي إلى زيادة وصول الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل.
(16) تقديم العمل في مجال السياسات والعمل التحليلي والخدمات الاستشارية الأخرى لدعم أنشطة تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
إستراتيجية للمستقبل وتجربة السودان:
وفي النهاية، نظرًا لأهمية الشركات الصغيرة والمتوسطة للاقتصادات في الدول العربية والافريقية كما أسلفنا حيث تعد العمود الفقري لتطور الاقتصاديات الوطنية، فضلاً عن قدرتها على امتصاص البطالة وتوليد فرص العمل، والحد من الفقر ودفع معدلات النمو، يصبح من المهم مساعدتها على التوسع في نشاطها، وزيادة رأسمالها، وتطبيق كل الحلول التي تحسن من وصولها إلى التمويل المستقر، ويتم ذلك من خلال إستراتيجية مستقبلية ترتكز على سرعة إصدار القوانين المنظمة للتمويل المتناهي الصغر، والذى يسمح بالعديد من الأنشطة والخدمات المالية المكملة التي تحتاجها الشركات الصغيرة، ولا بد للمصارف من وضع سياسات وتدابير مساعدة لدعم تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، وأن تبادر باتخاذ كل التدابير المالية؛ من أجل مساعدة ودعم تلك الشركات، مهما كانت طبيعتها، سواء ما تتعلق بإنتاج السلع أو ما يتعلق الخدمات، فضلاً عن إضافة شيء من المرونة من أجل تحفيز وتوجيه أصحاب هذه الشركات إلى تحقيق المنافسة بفعالية حقيقية.
كما يجب على الحكومات المساهمة من خلال الحوافز الضريبية، وهذا ما يحدث في العديد من الاقتصادات بالعالم، على سبيل المثال قدمت حكومة جمهورية كوريا واحدة من أكثر حوافز الدعم لهذه الشركات، وتعطي اليابان معاملة أكثر سخاءً للشركات الصغيرة والمتوسطة مقارنةً بالشركات الكبيرة.
ولقد كانت لنا تجربة ناجحة بالسودان من خلال التواصل المستمر بالبنك المركزي نتج عنه إصدار منشور من البنك المركزي لتقليل قيمة المقابل للضمان العقاري لشركات المقاولات إلى 100% بدلاً من 135%، مع تخفيض الضمان النقدي إلى 5% بدلاً من 25%، و تدرجت الاتصالات إلى أن تكللت بإدراج شركات التأمين ضمن المؤسسات المانحة لخطاب الضمان لشركات المقاولات، وحققت هذه التجربة نجاحاً استفادت منه العديد من شركات المقاولات المتوسطة والصغيرة، وكانت هذه السياسة سبباً في تطورها ونجاحها، الأمر الذي يبين لنا أن عملية تمويل شركات المقاولات الصغيرة والمتوسطة هي أمر متاح لكن يحتاج إلى مجهود وتعاون من الحكومات مع اتحادات المقاولين بالدول العربية لإيجاد صيغ تمويلية مبتكرة تساعد في نمو وتطور هذه الشركات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق