بقلم: دكتور مهندس مستشار مالك علي دنقلا
وجه فيروس كورونا ضربة قاصمة للاقتصاد العالمي بصورة تفوق ما كان عليه الحال في الكساد الكبير الذي أعقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث اجبر الوباء جميع دول العالم على الإغلاق التام وتقييد الحركة والتنقلات، فاصاب الركود قطاعات السياحة والنقل والضيافة، وكسدت عمليات التجارة والتوريد، وانكمشت الصناعة، وتقلصت اعمال البناء والتشييد ، كما انطفات الأضواء في التجمعات والحفلات والمناسبات العائلية والتجارية ، وانهارت البورصة واسواق المال والاسهم انهيارا ضخما، وفقد الملايين من الموظفين اعمالهم ، وارسل الباقين منهم إلى منازلهم للعمل عن بعد.
وعلى مستوى الدول العربية أشار تقرير قطاع الشئون الاقتصادية بجامعة الدول العربية إلى أن كورونا وجهت ضربات مباشرة للاقتصاد العربي، اسفرت عن خسائر فادحة بلغت 1.2 تريليون دولار، يتراوح نصيب قطاع التشييد فيها ما بين 4 الي 6 %، أي ما قد يزيد على 70 مليار دولار، مع توقعات بفقدان 7.1 مليون عامل بالقطاع لوظائفهم.
وقد كان لتوقف أعمال البناء والتشييد، ومشروعات البنية التحتية جراء تفشي الوباء في جميع دول العالم، اثرا اقتصاديا سلبيا غير مسبوق بل ومضاعفا، بسبب ان قطاع التشييد والبناء يعد واحدا من اهم القطاعات الاقتصادية الرئيسية، التي تدعم مخططات الدول التنموية، وترتبط به الكثير من القطاعات والصناعات الأخرى ، كما يسهم بشكل أساسي في توفير الكثير من فرص العمل.
هذه التأثيرات السلبية الناتجة عن تفشي جائحة فيروس كورونا كانت واضحة في فقد الوظائف العديدة التي كان يوفرها القطاع ، الامر الذي ادي الي ازدياد حالات البطالة الي اعلي مستوىاتها على الإطلاق خاصة بين العمال غير الرسميين .
وتسبب الوباء ايضا في حدوث خسائر مالية جسيمة لقطاع التشييد، وصلت قيمتها في دولة واحدة وهي بريطانيا إلى 29 مليار جنيه إسترليني ، كما تراجعت اعمال النشاط العقاري في معظم دول العالم منذ أن بدأت عمليات الإغلاق الحكومية وحظر التجول وتدابير التباعد الاجتماعي والتعليق المؤقت للحركة الجوية، حيث اوقفت العديد من الدول عمليات البناء، وحدث انخفاض يتراوح بين 40-60% في ترسية المشاريع الجديدة خلال عام 2020، في حين كان هناك عدد قليل جدا من حكومات الدول التي سمحت بمواصلة أعمال البناء ، مع قيود وإرشادات حول التباعد الاجتماعي ، وارتداء الأقنعة ، وبروتوكولات السلامة الأخرى.
ما بعد كوفيد-19
نظرا لأن الأهمية الاقتصادية الكبيرة لقطاع البناء والتشييد، قد دفعت كثير من دول العالم لإعادة التشغيل التدريجي أو الكلي للقطاع، والتعايش مع الأزمة، مع اتخاذ الضوابط والتدابير الاحترازية اللازمة وتحقيق التوازن بين إعادة التشغيل والحفاظ على صحة وسلامة العاملين، ورغم أن السماح باستئناف العمل بمواقع التشييد يبدو وكأنه أخبار جيدة ، إلا أنه لا يرسم صورة كاملة لما وصلت إليه الصناعة حاليًا، حيث تسبب التباطؤ الاقتصادي الناجم عن الوباء في توقف المالكين والمطورين عن طرح مشروعات جديدة، تخوفا من الزيادة المستمرة في اعداد المصابين بفيروس كورونا الجديد،
كما تواجه شركات المقاولات تحديات كبري من منظور التدفقات النقدية نتيجة رفض البنوك منحها قروضا لاستئناف اعمالها، نتيجة ارتفاع نسبة المخاطرة، مما يجعل الشركات عرضة لضائقة مالية شديدة، وخاصة الشركات الصغيرة التي لا تملك احتياطات نقدية، وميزانيات قوية ، الامر الذي قد يضطرها لإغلاق أبوابها؛ بسبب الضغوط المالية الناتجة عن تفشي الوباء.
ويري العديد من خبراء الصناعة انه الي ان يتوفر لقاح عالمي فعال لمعالجة الجائحة على نطاق واسع ، فمن المستحيل تحديد متى ستعود الأمور إلى طبيعتها في صناعة البناء والتشييد ، وعليه سيتعين إجراء تغييرات جذرية على الصناعة بحيث تصبح صناعة التشييد فيما بعد كورونا مختلفة تماما عن الصناعة قبل زمن كورونا ويتضح ذلك فيما يلي:
1- مشروعات البنية التحتية غير التقليدية
من المتوقع أن تقوم الحكومات بتعزيز الإنفاق على البنية التحتية، في إطار خططها لإنعاش الاقتصاد القومي ودوران عجلة الانتاج، كما ستتجه الدول الكبرى إلى مشروعات البنية التحتية غير التقليدية، ومنها مشروعات البنية التحتية التكنولوجية، ذلك الأمر الذي ينعكس بدوره على انخفاض تكاليف مواد البناء التقليدية.
2- الاعتماد علي التكنولوجيا الحديثة في عمليات التشييد المختلفة
سوف تتجه صناعة البناء نحو التحول الرقمي، وتبنى تقنيات جديدة تمكن من إنجاز المزيد من المهام عن بعد، ويتضمن ذلك نمذجة معلومات المباني، ومنصات إدارة المشروعات، حيث ساهم تفشي كورونا بشكل كبير في زيادة استخدام مثل هذه الحلول والتقنيات، وبالتالي سوف تستفيد صناعة البناء من هذه التقنيات حتى بعد عودة الشركات إلى ظروف العمل الطبيعية.
وعلى الرغم من العدد المتزايد للشركات الناشئة في مجال تكنولوجيا البناء على مدى السنوات القليلة الماضية ، ظل الاعتماد عليها في صناعة البناء منخفضًا، لكن بسبب فيروس كورونا ، تحول العديد من المقاولين إلى التكنولوجيا لمواصلة تقدم المشاريع،
وستسمح نمذجة معلومات البناء وبرنامج إدارة المشاريع لمديري المشاريع والواقع الافتراضي للمالكين والمهندسين المعماريين والمهندسين والمقاولين بتصور أفضل للمشاريع قبل وأثناء البناء، كما ستسمح لوحات العطاءات الرقمية وبرامج العطاءات بالتحكم في المشروع والعمل معًا عن بُعد، وستكمل روبوتات البناء ومعدات البناء المستقلة وشبه المستقلة العمال وتساعدهم للسماح لهم بزيادة الإنتاجية في مواقع العمل.
وعامة فان قائمة تطبيقات وفوائد تكنولوجيا البناء تطول وتطول، وسوف تقود صناعة البناء إلى ثورة تكنولوجية حقيقية وقد يكون الخوف من تكرار الوباء هو الحافز اللازم لاستمرارها.
3- مواقع بناء أكثر سلامة وأمانًا ونظافة
ظلت صناعة التشييد ، ككل ، تعاني من سجلها الحافل في مجال السلامة، ففي كل عام ، تتسبب أعمال البناء في حدوث العديد من اصابات العمل الخطيرة والوفيات الناجمة عن حوادث مواقع العمل، وبالتالي سوف تجبرالجائحة مديري الامن والسلامة علي توفير كل متطلبات التشغيل الآمن، ومعدات الحماية الشخصية، والالتزام بالضوابط والمعايير الوقائية المتعلقة بتعزيز السلامة والصحة المهنية في بيئة العمل وإجراء الاختبارات وتتبع الحالات المصابة وابقاء العمال بالمنازل في حالة المرض، واتخاذ كافة إرشادات التدابير الاحترازية المناسبة
وسوف تشهد مواقع العمل يقظة متزايدة بشأن التنظيف والتعقيم والتطهير في مواقع البناء، كما سيتم تضمين برامج التدريب وخطط السلامة الخاصة بالموقع كيفية التعامل مع الأوبئة المستقبلية، وكذلك إجراء عمليات التفتيش المختلفة في مواقع العمل لضمان تحقيق كافة وسائل الامن والحماية للعاملين.
4- تحسين شروط التعاقدات
تسببت جائحة كورونا وما نتج عنها من خسائر غير متوقعة لشركات المقاولات في الحديث عن عقود المقاولة وشروط القوة القاهرة والظروف الطارئة في هذه العقود وما إذا كانت تنطبق او لا تنطبق على هذه الجائحة.
من هنا فان العقود المستقبلية سوف تتضمن بندا ينص علي ان هذا الوباء او غيره من الاوبئة المستقبلية تدرج ضمن شروط القوة القاهرة للحد من المسؤولية الناجمة عن ظروف أو أحداث غير متوقعة خارجة عن سيطرة الأطراف المعنية والتي تؤدي إلى تأخير أو إلغاء مشاريع البناء.
إزاء ذلك، سيتعين على جميع أطراف صناعة البناء التعاون وتركيز جهودهم مجتمعة في كيفية تعظيم الفرص التي توجد في العلاقات التعاقدية الأكثر إنصافًا، لإيجاد بيئة عمل جديدة من الضوابط المنصفة والتعاونية والمتطورة التي تنظم عقودها ومشاريعها، وكيف يمكن لمثل هذه البيئة أن تساهم في خلق الوضع الجديد الكفيل بتنفيذ مشاريع البناء في اطار العقود الجديدة بطريقة تتجنب فيها هذه الأطراف أخطاء وعيوب الماضي، وتعمل على تحقيق الازدهار لأعمالها في مشهد جديد وغير مسبوق.
ونظرًا لأنه من مصلحة الجميع أن يستعيد قطاع البناء والتشييد عافيته، فإن الحديث عن ضرورة ايجاد صيغ عادلة ومتوازنة لعقود الانشاءات سوف يشكل عاملًا أساسيًا من عوامل هذا الانتعاش المنشود، ولعل الظروف الراهنة هي الفرصة المناسبة لتبني هذا الاتجاه في العقود المستقبلية بما يحقق مصالح جميع الاطراف ويضمن خلق عوامل النجاح للمشروعات في آن واحد.
5- الاستثمار في رأس المال البشري
اوضحت تاثيرات جائحة كورونا على الضرورة الملحة مستقبليا نحو تعزيز الاستثمارات في رأس المال البشري ، وهو أمر حيوي لكافة القطاعات الاقتصادية وخاصة قطاع البناء والتشييد، الذي هو ركيزة النمو والتنمية في جميع البلدان، حيث لا يمكن على المدى الطويل الاستمرار في الاعتماد على عائدات قطاع واحد سواء قطاع السياحة او قطاع النفط والغاز لتمويل تنمية البلدان، نظرًا لأن الوباء تسبب في صدمات سلبية في العرض والطلب ، حيث تفاقم الامر بالنسبة للدول السياحية نتيجة توقف حركة النقل والطيران، كما تفاقم الوضع ايضا في الدول النفطية بسبب انخفاض أسعار النفط الذي أضر بشدة بالإيرادات المالية ، وبالتالي سيساعد الاستثمار في رأس المال البشري على توفير كوادر بشرية ماهرة ومدربة في مختلف المجالات مما يساهم في تحويل الاقتصادات وتعزيز النمو ، مع ما يترتب على ذلك من آثار واسعة على رفاهية المواطنين وازدهارهم.
6- تحول اتجاهات سوق البناء
تسبب الوباء في انخفاض الطلب على أنواع معينة من المشاريع بشكل كبير بينما شهد البعض الآخر نموا وزيادات في الطلب، فعلي سبيل المثال انخفض الطلب علي اعمال بناء الفنادق والمسارح ودور السينما والاماكن الترفيهية ، والمطاعم ، وما إلى ذلك ، ، كما سيكون هناك طلبا أقل أيضًا على البنية التحتية التجارية، حيث سيواصل الأشخاص اعتمادهم على التسوق عبر الإنترنت ، في المقابل ازدادت الاستثمارات في مشروعات الاتصالات والمدن الذكية ومراكز البيانات لتسهيل العمل عن بعد.
وسوف تؤدي هذه التقلبات الي قيام المقاولين بمراقبة اتجاهات السوق عن كثب وتعديل استراتيجياتهم حيث سيتعين على شركات البناء المتخصصة في نوع واحد أو نوعين من المباني أن توسع تفضيلاتها وأن تكون أقل انتقائية في أنواع المشاريع التي تسعى إليها، حيث يمكن أن تنشأ فرص جديدة، كما قد يضطر المقاولون الذين يركزون فقط على المشروعات العامة كالطرق والجسور والصرف الصحي إلى البدء في النظر إلى المشاريع التكنولوجية والخاصة.
7- خلق المزيد من المنافسة
سوف يؤدي طرح مشروعات تخصصية ذات نوعية جديدة الي ازدياد حدة المنافسة على هذه المشاريع حيث يتنافس المزيد من المقاولين على عدد أقل من المشاريع، ما يترتب علي ذلك من إجبار المقاولين على أن يكونوا أكثر كفاءة في اعمالهم واكثر اجتهادًا في عملية تقديم العطاءات، بالإضافة إلى ضمان دقة عمليات التقديرات حتى يتمكنوا من التركيز على متابعة المشاريع المربحة والحفاظ على نسبة نجاح العطاء، كما سيؤدي ذلك أيضًا إلى تطوير المقاولين لانفسهم، ورفع مستوي الكوادر المختلفة بشركاتهم والاعتماد علي أساليب حديثة في إدارة المشاريع الجديدة ، مثل البناء الخالي من الهدر ،وكيفية تسليم المشاريع التي يفوزون بها في الوقت المحدد وفي حدود الميزانية، كما سيتجه القائمون علي نشاط البناء الي تنويع وتقوية جميع التخصصات في اعمالهم حيث أن الشركات التي تسطيع استباق التغييرات واستيعابها هي التي ستكون في موقع جيد يمكنها من مواجهة تحديات المنافسات المستقبلية.
8- البناء خارج الموقع
لعل من اهم النتائج المستقبلية الايجابية التي سوف تترتب عن تاثيرات وباء كورونا علي قطاع التشييد هي ان الاتجاه الاكثر شيوعا في المستقبل، سيكون نحو اعمال البناء خارج الموقع او ما يسمى بـ”البناء الجاهز”، اي تصميم كل متطلبات المباني في المصانع، والساحات المغلقة من خلال العديد من التقنيات الحديثة الامر الذي سوف يساعد علي ان تكون اعمال البناء اكثر إنتاجية، وتزداد معها فرص العمل، فضلاً عن تقليل مدة إنجاز المشروعات و تقليل التكاليف، نتيجة الاستغناء عن نفقات الأعمال التي تتم بصورة تقليدية، كما ان البناء خارج الموقع سيساعد على تقليل الفاقد الناتج عن البناء عند مقارنته بالبناء في الموقع.
فخوفا من الوباء حاليا يُطلب من شركات المقاولات تقليل عدد الأشخاص في موقع العمل للحد من انتشارالجائحة الامر الذي يتسبب في فترات بناء أطول وتاخير تنفيذ المشروع، في حين إن عملية البناء خارج الموقع اكثر امانا وتقلل من مخاوف ومخاطر السلامة، نتيجة قضاء وقت أقل في الموقع لتجميع الوحدات الجاهزة ، علاوة علي انعدام تاثير الظروف الجوية وعوامل الازعاج الي الحد الادني حيث يتم تصنيع غالبية عناصر البناء في ساحات مغلقة بالكامل او في بيئة يتم التحكم فيها بالمناخ ما يعني مواصلة العمل في كل الاحوال بغض النظر عن سوء الأحوال الجوية ، عكس ما يحدث في البناء داخل الموقع.
هذا بالاضافة الي ان البناء خارج الموقع يوفر بيئات تعليم ملهمة ومحفزة ، مع مرونة كاملة على المدى الطويل في تصميم المساحات في جميع المباني الجديدة لتلبية المتطلبات المتغيرة ، كما أن الحلول الأكثر تقدمًا خارج الموقع تتسم بالمرونة الكافية للوفاء بمتطلبات اي موقع تقريبًا، مع صــنع وحــدات فــي المعامــل يصــعب علــى البناء التقليدي انجازها في موقع العمل، وبالتالي ينتج عن البناء خارج الموقع تنفيذ المنتج النهائي بجودة قصوى.
خلاصة القول انه رب ضارة نافعة فقد يكون هذا الوباء الذي الم بالعالم كله والقي بظلاله السلبية علي جميع القطاعات الاقتصادية وفي القلب منها قطاع البناء والتشييد هو فرصة لتصحيح بعض الاوضاع المزمنة التي كان يعاني منها هذا القطاع الهام والحيوي ، وقد نري الضوء في نهاية النفق ، فمع التخطيط السليم والتعديلات يمكن أن تخرج صناعة التشييد من الجانب الآخر أقوى وأكثر مرونة من أي وقت مضى.
. ..................................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق