بقلم: دكتور مهندس مستشار مالك علي محمد دنقلا
في ظل الآثار الصحية والاقتصادية شديدة الخطورة للموجة الارتدادية من جائحة كورونا، أصبح الاهتمام الرئيسي للحكومات والشركات على مستوى العالم هو أن يتم بالتوازي - مع جانب الحفاظ على سلامة المواطنين - الإسراع في وضع خطط وسياسات يمكن من خلالها تفادي الخسائر الاقتصادية الجسيمة المترتبة عن الجائحة، أو العمل على تقليلها إلى أدنى حد ممكن.
فمع انتشار فيروس كورونا على نطاق واسع عانت جميع الأنشطة الاقتصادية للدول بسبب عمليات الإغلاق والحجر الصحي التي تمت لاحتواء المرض ومنع انتشاره؛ حيث انخفض العرض والطلب والاستهلاك الخاص بدرجة كبيرة؛ نظراً لتأثر دخل الأسر جراء الانكماش الاقتصادي، وزيادة البطالة، وخفض الرواتب، وبالتالي ازدادت حالات الفقر والإفلاس لا سيما في المناطق الحضرية.
وأشارت تقارير البنك الدولي إلى انخفاض نسبة النمو العالمي من 5.6٪ في السنة المالية 2019م إلى 3.5٪ في السنة المالية 2020م، ومع سيناريو استمرار الوباء حتى أوائل عام 2021م، من المتوقع أن ينخفض النمو إلى 2.3٪ في السنة المالية 2021م.
كما انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي بشكل حاد في بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث اضطرت هذه الدول إلى الاستعانة بالتمويلات الخارجية، بما في ذلك القروض المؤقتة من صندوق النقد الدولي، وفي هذا الصدد أشارت تقارير البنك الدولي، أنه قد تم على وجه السرعة زيادة الدعم المقدم لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للمساعدة في الحد من الأضرار الصحية والاقتصادية الشديدة، حيث قدم البنك ما يقرب من 700 مليون دولار في شكل دعم طارئ لبعض دول هذه المناطق لتلبية الاحتياجات الصحية الملحة للوباء، إلى جانب الاستجابة الفورية لمنح التمويلات اللازمة والإقراض الإضافي لدعم استقرار الاقتصاد الكلي، وتعزيز الإصلاحات الهيكلية، والمساعدات الفنية، ودعم أنظمة شبكات الأمان.
من جانبها خصصت بعض الحكومات حزم استجابة طارئة بمليارات الدولارات لزيادة الإنفاق الصحي، وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية، وتوفير الإغاثة المالية للأفراد والشركات، كما تضمنت الإجراءات الرئيسية تقديم منح نقدية للعمال غير النظاميين، وتأجيل الإقرارات الضريبية وسداد القروض، بالإضافة إلى الائتمان المدعوم للقطاعات المستهدفة.
وكانت التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا شديدة السوء بالنسبة لقطاع المقاولات، حيث سببت مزيداً من الضغوط على القطاع، الأمر الذي أسفر عن إغلاق وإفلاس العديد من شركات المقاولات نتيجة تفاقم الخسائر والمديونيات، كما لوحظ أنه حتى الشركات الكبرى لم تستطع النجاة من هذه التداعيات السلبية، حيث أشار الخبراء إلى أن 88٪ من الشركات التي تبلغ إيراداتها 500 مليون دولار أو أكثر أبلغت عن مشاريع مؤجلة أو ملغاة.
وانعكس ذلك أيضاً على حجم الفرص المتاحة وأعداد التوظيف للمقاولين التي انخفضت إلى 234 منطقة حضرية من أصل 358، أو بنسبة 65٪، مقارنة بالعام الماضي، وأشارت التقارير أنه قد حدثت خسائر هائلة في وظائف صناعة التشييد في الولايات المتحدة، والتي فقدت عشرات الآلاف من الوظائف أو نسبة 10٪، وهي أكبر نسبة حدثت في أي منطقة أخرى.
وتسبب النقص الحاد في المواد والمدخلات وسلسلة التوريد في حدوث تأخيرات كبيرة في المشاريع قيد التنفيذ، نتيجة عمليات الإغلاق وتوقف الإمدادات، والاضطرابات في النقل بالشاحنات والسكك الحديدية والشحن البحري.
ولأن قطاع الإنشاءات من القطاعات ذات الأهمية الكبري في الاقتصاديات الكلية للدول، ويؤثر إيجاباً وسلباً على باقي القطاعات الاقتصادية، وعلي نمو الناتج المحلى الإجمالى، علاوة على أنه قطاع كثيف العمالة، فإن تعطيل هذا القطاع يُعجِّل من تحول حالة الركود إلى حالة الكساد الكلي، وهو ما تسعى جميع الدول لتفاديه، لذا رُؤي أنه يتعين وضع سياسات جوهرية لمساعدة القطاع على تجاوز فترة لنتشار الوباء، مع الحفاظ على سلامة العلاقات المالية بين الشركات العاملة في القطاع وبين العملاء والمقرضين والموردين والمستخدمين النهائيين، حتي يتعافى النشاط، خاصة وبالنظر إلى الآثار السلبية التراكمية التي عاني منها القطاع، وجد أنه حتى لو تم احتواء انتشار الفيروس على المدى القصير، فإن معاناة شركات الإنشاءات من هذه التأثيرات سوف تستمر لعدة شهور قادمة قبل عودة نشاط البناء إلى طبيعته، سواء من حيث التأثيرات على العقود، أو تأخيرات المشروعات، أو اضطرابات سلاسل التوريد.
ويبقي السؤال الآن هو: كيف يمكن تقييم مدى التأثير الكبير للقيود المحلية والعالمية على القطاعات المتعددة لصناعة التشييد؟ وكيف يمكن لنشاط البناء أن يتخذ خطوات استباقية للتخفيف من آثار هذه الجائحة؟
فبينما لا يزال تقييم التأثير الكامل سابقًا لأوانه، فإن استمرار فيروس كورونا في إحداث تأثير كبير بعد الموجة الثانية، سوف يتسبب في حدوث تأخيرات كبيرة في المشاريع، وهذا يعني أن شركات المقاولات بحاجة إلى أن تكون في مقدمة الشركات التي لا بد لها من اتخاذ خطوات استباقية عملية للتخفيف من تلك التأثيرات على أعمالها، ذلك أن تأثير الجائحة سوف يظهر في جميع قطاعات صناعة التشييد، وعلى الصعيدين التشغيلي والمالي.
وقد اتضحت بعض الآثار التشغيلية في العقود الحالية، من خلال التأخير في الإنجاز، وتعليق وإنهاء العقود، أو حصول تأخيرات تبلورت عنها العديد من النزاعات بسبب الطلبات النقدية.
وفي قطاع آخر وهو قطاع الموارد البشرية تمثل التأثير السلبي من خلال مدي توافر القوى العاملة بسبب حالات الإصابة والوفيات، أو التكاليف والحوافز المطلوبة للحفاظ على الكوادر المهرة الرئيسيين.
وتمثلت الآثار السلبية في قطاع التوريدات من خلال تباطؤ التوريد من المناطق المتضررة على مستوى العالم، حيث تحركت مشروعات البناء بوتيرة أبطأ من المعتاد خلال فترة تفشي الوباء، بسبب مواجهة الموردين لتحديات متمثلة في إعادة الإغلاق، وتقليل العمليات، وكذلك تصاعد أسعار المواد والمعدات والعمالة، والتي أدت إلى تراجع استخدام الطاقة الإنتاجية.
وعلى سبيل المثال، فإن الصين التي تعد أحد الموردين المهمين للسلع إلى بقية دول العالم، قد أدى الاضطراب الذي تشهده إلى تداعيات على معظم مصانعها وشركاتها التي تنفذ وتورد السلع والمعدات والآلات اللازمة لاتمام عمليات تنفيذ المشاريع، الأمر الذي ساهم بدوره في رفع تكاليف ممارسة الأعمال.
وكان القطاع الرابع الذي تأثر بشدة من الجائحة هو موقع العمل، حيث استلزم الأمر تحمل نفقات إضافية للحفاظ على أمن المواقع المغلقة، وإدارة مخاطر الصحة والسلامة، وكذلك تكاليف توقف المشروعات، مع تعرض المواد في هذه المواقع المغلقة للعوامل الطبيعية، مما أدي لتلفها نتيجة فقدانها الخصائص المطلوبة.
أما الأثار المالية المتأثرة بالجائحة فهي في ثلاثة قطاعات، أولها (قطاع الإيرادات)؛ إذ سيكون لإلغاء أو تأخير العقود آثار جسيمة على قيم الإيرادات، وثانيها (قطاع رأس المال العامل) الذي عانى من ضغوط شديدة أثرت على حالة السيولة، وثالثها (قطاع التمويل) حيث يستغرق الوصول إلى رأس المال الجديد الداعم وقتًا أطول مما كان متوقعًا، نظراً لتشكك الممولين في قدرة الشركات على سداد القروض في الوقت المحدد لها، ولتصاعد المخاطر، الأمر الذي تسبب في ارتفاع تكاليف الاقتراض وكشف مواطن الضعف المالي التي تراكمت خلال سنوات سابقة.
ولمواجهة جميع هذه التداعيات بطرق استباقية، يجب على الشركات القيام بعمل تقييم وتخطيط للأعمال الإدارية في هذه القطاعات المحددة، فإذا تناولنا على سبيل المثال قطاع العقود فإن على الشركات التعرف على حقوقها ومسؤولياتها التعاقدية نحو كل مشروع من أجل تقليل النزاعات المستقبلية بشكل أكبر، وعلى وجه الخصوص يجب النظر بعناية في البنود التي تشير إلى القوة القاهرة أو الظروف الطارئة أو التدخل الحكومي أو التغييرات التشريعية.
وثانياً بالنسبة لقطاع العملاء، يجب معرفة أن التواصل المتكرر مع أصحاب العمل هو مفتاح إدارة التوقعات وتقليل الآثار السلبية في إدارة وتنفيذ المشاريع.
وفي قطاع العمالة يتطلب الأمر عناية خاصة في إدارة تكاليف الموظفين والمشاركة في مواجهة اضطراب الأعمال، حيث تحتاج الشركات خلال فترة توقف النشاط إلى تقييم عملية خفض تكاليف الأفراد وتخفيض الأجور وضغط النفقات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إيجاد بدائل للدفع النقدي مع القدرة على التخطيط الجيد، وتقييم متطلبات الموظفين، والعمل على الاحتفاظ بالموظفين المهرة الرئيسيين.
وبالنسبة للقطاع الرابع وهو أمن الموقع (الصحة والسلامة) فيمكن خلال إغلاق المواقع مراعاة أن يكون هناك تدابير أمنية مناسبة للمواقع وإجراءات مطبقة للحفاظ على البنية التحتية للمواقع الهامة؛ وكذلك تجنب أية مخاطر على الصحة والسلامة على المدى القصير؛ على أن تتم مراجعة سياسات التأمين بالتفصيل لضمان الالتزام بجميع متطلبات التغطية للمواقع المغلقة، أو إذا كان هناك صعوبة في ذلك يجب على الفور التعامل مع شركات التأمين.
أما القطاع الخامس والذي يشمل كلا من سلسلة التوريد والمقاولين من الباطن، فيجب على الشركات أن تراقب باستمرار مدي توقف أو اضطراب سلاسل التوريد من مكان إلى مكان، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على ندرة السلع والمدخلات على المدى القصير والمتوسط، وكذلك يجب أيضًا صياغة خطط طوارئ بديلة للإمداد، والبحث بشكل استباقي عن بدائل للسلع الضرورية والخدمات المهمة من أجل الحصول على خيارات عديدة بمجرد إعادة فتح المواقع.
أخيراً يتضح من خلال كل ما سبق أن على شركات المقاولات سرعة اتخاذ إجراءات فورية وخطوات استباقية خاصة على الصعيد المالي تشمل إعادة التنبؤ بالتداول والتدفقات النقدية، ومراجعة التوقعات التفصيلية للأشهر القادمة، وتحديد الإجراءات المخففة التي يمكن اتخاذها للحفاظ على السيولة على المدى القصير والمتوسط، وكذلك العمل على إعداد السيناريوهات الكاملة والاستعداد لها باختبار جميع الافتراضات وتحديثها للمساعدة في فهم احتياجات التمويل الفعلية والمحتملة.
ومن الضروري أيضاً مراجعة شروط الإقراض لضمان الفهم الواضح للمصطلحات الرئيسية والعهود، وأي مرونة في المستندات المصرفية والتمويلية الحالية، والعمل على التنسيق بشكل استباقي مع الممولين لمنع حدوث أي نكوص محتمل للتعهدات المالية، ومن المهم أيضاً تحديد مصادر إضافية لرأس المال في حال أشارت توقعات التدفق النقدي إلى أن السيولة سوف تمثل مشكلة أو ستصبح مشكلة، حيث يجب على الشركات تقييم خيارات جمع أموال جديدة.
ولا بد للشركة من العمل على إثبات القدرة على التعافي، حيث من الأمور الهامة جدّاً، أن تثبت الشركة للممولين قدرتها على العودة إلى شيء يقترب من وضعها الأصلي في غضون فترة زمنية معقولة، كما يجب على الحكومات في تلك الظروف الراهنة تقديم ضمانات ائتمانية موقتة وموجهة لتلبية احتياجات الشركات إلى السيولة على المدى القصير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق