شواهد عديدة تشير الي أن شعوب الدنيا تختلف عن بعضها البعض لأسباب ما في تعلق كل واحد منها بخامة بناء محددة. بعض منهم ممن يقيمون في الجزء الغربي من أفريقيا مثل النيجيريين والماليين لهم علاقة حميمة بالتراب والطين. أهل الشرق الأوسط خاصة الشوام ومنهم اللبنانيون والسوريون مغرمون بالحجر الطبيعي. الشعوب الإسكندنافية مثل أهل السويد والنرويج مرتبطون وجدانياً بالخشب. البريطانيون خامتهم المحببة الطوب ويستدل على ذلك باثنين من أهم مبانيهم في لندن العاصمة. مبنى مجلس الوزراء ويعرف بالتن داونق ستريت Ten Downing Street ومسكن رئيس الوزراء.
نسلط الضوء هنا على حالة توثق لعلاقة البريطانيين مع خامة بنائية هي نوع محدد من أنواع الطوب الأحمر. نسبة لجودته يستخدم لتشييد الأجزاء الخارجية من المباني لهذا السبب يعرف باسم طوب الواجهات وإثمه الشائع السدابة. سننظر في هذه العلاقة الخاصة والحميمة بمنظور خاص. بالتحديد في إطار علاقتنا نحن بهم من خلال فترة حكمهم للسودان وما بعد ذلك. احتلوا بلادنا وحكموها بالاشتراك مع المصريين في فترة سميت بالحكم الثنائي قاربت الستة عقود من الزمان. كانت بدايتها مع نهاية القرن التاسع عشر وانتهت بنيل السودان لاستقلاله في منتصف العقد السادس من القرن العشرين.
نسلط الضوء هنا على حالة توثق لعلاقة البريطانيين مع خامة بنائية هي نوع محدد من أنواع الطوب الأحمر. نسبة لجودته يستخدم لتشييد الأجزاء الخارجية من المباني لهذا السبب يعرف باسم طوب الواجهات وإثمه الشائع السدابة. سننظر في هذه العلاقة الخاصة والحميمة بمنظور خاص. بالتحديد في إطار علاقتنا نحن بهم من خلال فترة حكمهم للسودان وما بعد ذلك. احتلوا بلادنا وحكموها بالاشتراك مع المصريين في فترة سميت بالحكم الثنائي قاربت الستة عقود من الزمان. كانت بدايتها مع نهاية القرن التاسع عشر وانتهت بنيل السودان لاستقلاله في منتصف العقد السادس من القرن العشرين.
يحمد للبريطانيين أنهم طوال فترة حكمهم للبلاد اجتهدوا كثيراً في التأسيس لدولة حديثة. تشهد بذلك العديد من المنجزات وتحديداً المؤسسات التي نهضت في كافة المجالات مثل الزراعة والسكك الحديدية والخدمة المدنية والتعليم. تعنينا منها هنا على وجه التحديد إنجازاتهم في مجال التنمية العمرانية وانعكاساتها على الجانب المعماري. في ها الإطار سعوا سعياً حثيثاً لصناعة عاصمة يضاهوا بها عواصم مستعمراتهم في العالم الثالث وأفريقيا. استقدموا لهذا الغرض أميز الاختصاصيين الذين تخرجوا من جامعاتهم المرموقة.
ثابر البريطانيون ومع شركائهم المصريون في التأسيس لمدينة الخرطوم التي اختاروها عاصمة لنظام حكمهم على نهج حضاري متقدم. بداؤه عملهم بالجانب التخطيطي وأولوه عناية فائقة. بعد ذلك ركزوا على تصميم وتشييد المباني الأساسية مثل دواوين الدولة وباقي المرافق التابعة لها. وجد الجانب السكنى أيضاً اهتماما خاصاً. في ذلك الإطار يحمد لهم أنهم أسسوا لنهج معماري جدير بكل الاهتمام والاحترام فقدموا أعمالاً في غاية الروعة. أسسوا من خلالها لطراز عرف باسم عمارة الكولونيال colonial architecture وتعني هنا عمارة المستعمرين.
قدم البريطانيون عبر منظومة وسلسلة من الأعمال المعمارية المميزة مفهوم جديد للعمارة مؤسس على رؤية رصينة متقدمة. نهضت تلك التنمية العمرانية على جهد مقدر في مجال صناعة مواد البناء التي تعتبر من البنيات الاساسية. فأنتجوا نوعيات من الطوب الأحمر ذات جودة عالية عرفت باسم طوب الواجهات أو طوب السدابة. كجهد مكمل طوروا صناعة الجير باعتباره مكون أساسي للعمارة الطوبية واستخدموه كمادة رابطة في زمان لم تعرف البلاد خامة الأسمنت. هذه الخامات والمعينات شكلت الأساس لعمارة طوبية بالغة التميز. قدمت لنا روائع معمارية عرفت بعمارة الكولونيال السودانية.
نشأت تاريخياً علاقة حميمة قديمة بين البريطانيين وخامة الطوب الاحمر. طوروه عبر عدة عصور وبرعوا فيه بشكل مميز تشهد به جلائل الأعمال التي تعددت طرازاتها مع تغير المفاهيم. حط رحلهم ببلادنا وبدأوا في تدبر أمورهم لإدارة شئونها في نهائيات القرن التاسع عشر. عند بداية عملهم في التأسيس لعاصمتهم الجديدة شكلت التنمية العمرانية واحدة من أهم مشاغلهم. استصحب تخطيطهم لتحقيق هذا الهدف أمكانيات ومقومات خامتهم الأثيرة الطوب الأحمر. الذي سعوا كما ذكرت من قبل للتأسيس لصناعته على أكمل وجه. انطلقوا بعد ذلك لينتجوا أروع أعمال العمارة الطوبية التي نافست تقنياتها جماليتها.
أعمالهم الرائعة في هذا المجال انطلقت عبر محوريين أساسيين كما أشرت من قبل الجانب التقني والجمالي للعمارة الطوبية. دشنوا مسيرتهم القاصدة من خلال تأسيس عاصمتهم الوليدة مع بدايات القرن العشرين. استمر عملهم بشكل دؤوب لقرابة الستة عقود من الزمان. أنتجوا خلال تلك الفترة بتوجه متوازن جمع بين تقنيات الطوب المتقدمة وفنياته العالية العديد من الدرر المعمارية. عزز من سعيهم لإبرازها في أحسن وجوهها حالة التنافس المستعرة بينهم وبين شريكهم المصري. الذي كان قد اعتمد الحجر الرملي كخامة أساسية نسبة لارتباطهم التاريخي والوجداني به فوظفوه لإنتاج أعمالً معمارية بالغة التميز.
مع بدايات القرن العشرين دشن الشريك البريطاني مسيرة عمارته الطوبية بأهم أعماله في المنظومة الكولونيلاوية. مبنى كلية غردون التذكارية الذي يعتبر بمثابة الجوهرة في تاج عمارتهم التي حملت ذلك الاسم العظيم. توفرت له كل الظروف ليحتل ذلك المكان. من أهمها الاسم الذي ارتبط به فغردون في نظر البريطانيين في ذلك الزمان شخصية أسطورية قائد عظيم ملهم وفي مقام القديسين. حظي المبنى بموقع ممتاز وجهة تصميمية معتبرة وميزانيات ضخمة وإستُنفر له أمهر البنائين مدعمين بحشود من العمال. كل الشروط المطلوبة لإنتاج أروع الأعمال المعمارية ولقد كان بالفعل على قدر التحدي.
تجاوبت العمارة مع شمسنا الساطعة وروضتها بحنكة بالغة. الخطوة الأولى كانت في حسن اختيار خامة البناء، فالطوب الأحمر هو الأحسن في التعامل مع مناخاتنا اللاهبة. تفاعل التصميم أيضاً عبر رواقاته، برنداته، العميقة التي حمت وظللت واجهات المباني الرئيسة. تمت حماية جزئية للروقات بترويض أشعة الشمس الساقطة عليها. ابتدع المصمم فكرة التخريم على الواجهات. فتحات صغيرة بأشكال جميلة مبتكرة شكلت وحدات زخرفية منحت المبنى جمالاً وحيوية. منعت أشعة الشمس من التسلل واصطادت نسمات الهواء الشاردة. بالإضافة الي ذلك منحت العمارة ملمحاً وهوية مداريةً قربتها الي نفوسنا.
يعتبر مبنى كلية غردون التذكارية تحفة بحق وحقيقة. استعرض فيه البريطانيون جل تقنيات وفنيات عمارة الطوب عشقهم الأثير ومصدر فخرهم. لهذه الأسباب سعيت للتغزل فيه كلما حانت لي الفرصة وتجدون بعضاً من المقالات الغزلية مضمنة في موقعي الإلكتروني. بنفس روح الحماس والنشوة وبعد بضع سنين انطلقت الجهات المختصة لتعيد تجربة مشابه لمبنى الكلية. نفذته في مشروع أخر بالغ الاهمية. في نفس ذلك الشريط المطل على النهر ومن ناحية الغرب شيدوا مبنى الحكمدارية أو قصر الحكم وهو حالياً وزارة المالية. عمارة في غاية الروعة والبريستيج تحمل العديد من ملامح مبنى كلية غردون التذكارية.
دشن مبنى الكلية العمل في مساحة الأرض الشاسعة المطلة على النهر التي خصصت لخدمة نفس تلك الأهداف التعليمية السامية. هدفت من ورائها الإدارة البريطانية لقيام مؤسسة قومية شامخة. انداحت بعد ذلك المجمعات والمباني الخاصة بها والمصممة على نفس النمط بدرجة أقل قليلاً من الناحية الطرازية. توزعت بالجهة الجنوبية والغربية من مبنى الكلية كحبات العقد النضيد. نذكر منها بالتحديد مبنيين مهمين مطلان على شارع الجامعة كانتا من قبل داخليتا النيل الأزرق والنيل الأبيض. تشغلهما الآن كليتا القانون والعلوم الإدارية. تتابعت بعد ذلك المجمعات والمباني لتنضم لمنظومة الروائع التي أسست في السودان لعمارة طوب السدابة الكلاسيكية.
تداعت بعد ذلك عمارة السدابة الكلاسيكية مع مرور العقود في النصف الأول من القرن العشرين وانتشرت في أرجاء العاصمة. ظهرت هنا وهناك بنبرة أقل كلاسيكية قدمت فيها عمارة هجين طرازياً. من أبلغ شواهدها مبنى البريد والبرق الرئيس الواقع غرب القصر الرئاسي وعلى شارع السردار حالياً الجامعة. تعلن الكلاسيكية عن نفسها هنا بأعمدة الحجر الرملي العملاقة دورية الطراز التي تتصدر الواجهة. بالإضافة للشرفات أو البلكونات الصغيرة الناهضة أمام المبنى. تنازعها مؤشرات حداثية تتجسد في بساطة الشكل العام وخطوطه المستقيمة وزواياه القائمة. تتمدد مساحات طوب السدابة هنا لتواخى بين دلالات الكلاسيكية والحداثة.
التحلل التدريجي التكتيكي الواضح من الكلاسيكية جاء في مبنى شيدته سلطة الاحتلال البريطانية وهي توشك على مغادرة البلاد. واحد من أهم معالم مدينة أمدرمان العاصمة الوطنية. الإشارة هنا لمبنى المجلس البلدي المشيد على الطرف الشرقي من شارع العرضة أحد أهم شوارع المدينة. عمارة موشحة بالسدابة قدمت عرضاً متوازناً بين الكلاسيكية والحداثة استعرضت جوانبها بإفاضة في موقع أخر. وَثقت هذه الحالة للحظتي مغادرة مهمتين. الأولى مغادرة المحتل وهو يستعد للرحيل بعد أن نالت البلاد استقلالها. الثانية لحظة أو مرحلة مغادرة جاءت في شكل انسحاب تدريجي من التزامهم السابق الصارم بنهج العمارة الكلاسيكية.
رحلت قوات الاحتلال وانتهى عهد الحكم الثنائي بعد نيل البلد للاستقلال في عام 1956. لكنها لم تكن نهاية قصتنا وقصتهم مع عمارة طوب السدابة. لكآنى بالبريطانيين قد استبقوه كخط رجعة ليعودوا عبره في سياق مختلف ونهج جديد. تحقق ذلك فعلاً عندما أسست في نهاية الخمسينات نخبة مميزة من علمائهم وأستاذتهم قسم العمارة بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم. من ناحية المرجعية الفلسفية قام منهج القسم على فكر الحداثة وخطها المعماري. في هذا الإطار الفكري وجدت عمارة السدابة نفسها هذه المرة في خضم زخم هذا التوجه الجديد.
صاغ منها في البدء في نهاية الخمسينات الأساتذة البريطانيين أروع أعمال عمارة السدابة التي زينت مواقع جامعة الخرطوم. كان رأس الرمح في ذلك الفتح المبين رئيس القسم الدكتور/ ألكساندر بوتر بالإضافة لبعض زملائه البريطانيين. جاءت هذه المرة محمولة على أجنحة الحداثة. لكآنى هنا بالتاريخ يعيد نفسه. ولدت عمارة السدابة في ثوبها الكلاسيكي مع بدايات القرن على أيدي الجهات المختصة في الإدارة البريطانية. بعد نصف قرن بعثت من جديد في نفس المكان والمواقع. ظهرت عمارة السدابة هنا وقد رفع لوائها نخبة من الأساتذة البريطانيين فجاءت في ثوب ناصع الحداثة. كان القاسم المشترك في كلا الحالتين البريطانيون وفي جعبتهم خامتهم الأثيرة النبيلة.
في عملية ناجحة قام الأساتذة البريطانيون بمناولة الشعلة للدفعات الأولى من قسم العمارة. الذين تم تأهيلهم في الجامعات البريطانية وصاروا أساتذة بالقسم ومصممين في وحدة المباني التابعة للكلية. اجتاحت السودان أحداث سياسية في منتصف الستينات خلقت أجواء عدائية تجاه الغرب الأوربي دفعت العديد من مواطنيهم لمبارحة البلاد. كان من ضمنهم عدد مقدر من الأساتذة البريطانيين بقسم العمارة وكلية الهندسة. لم تؤثر تلك الصدمة كثيراً على مسيرة عمارة الحداثة المحمولة على أجنحة عمارة السدابة إذ تولى مهمة نشرها نخبة من أساتذة القسم. كان على رأسهم كبيرهم الذي علمهم السحر عراب ذلك التوجه الجديد الأستاذ عبد المنعم مصطفى.
شهدت ستينيات القرن الماضي تطوراً مهماً لمسيرة عمارة الحداثة السودانية المحمولة على أجنحة طوب السدابة. التي ولدت وشبت وترعرعت في حضن مواقع جامعة الخرطوم. إذ تم إشهارها وانتشرت على نطاق أوسع وتمددت في البدء في عدد من نواحي وأحياء العاصمة المثلثة. حمل رأيتها عدد من خريجي جامعة الخرطوم وغيرهم ممن درس بجامعات أخرى. على رأس المجموعة الأخيرة العراب الأستاذ عبد المنعم مصطفي الذي درس بجامعة ليستر البريطانية. يضاف إليهم المعماري الرقم كمال عباس الذي درس العمارة بيوغوسلافيا. عاشت عمارة الحداثة الموشحة بطوب السدابة زمانئذ أزهى فتراتها في ستينان وسبعينات القرن.
بعد تلك الفترة وفي إطار التطور في مواد وتقنية البناء ظهر عدة منافسين لطوب السدابة. كان من أهمهم الطوب الالي mechanical bricks. كان عامة الناس يسمونه طوب عطبرة او طوب السكة حديد نسبة لارتباطه بتلك المدينة والجهة. أضيف له بعد ذلك منافس أخر هو الطوب الإسمنتي. طورت بعد ذلك مواد تشطيبات المباني الخارجية بشكل ساعد في سحب المزيد من البساط من تحت أقدام طوب السدابة. من أسباب تطور الأحداث في ذلك الاتجاه انحسار البعد الفكري الذي أسس لحركة الحداثة على توجهات كان طابعها الزهد.
استمرت عمارة الحداثة المحمولة على أجنحة طوب السدابة في حالة انحسار وتراجع خلال عقد الثمانينات. كانت هناك عدة مؤشرات تدل على أن الزمن ليس في صالحها. انفرج الوضع ولاح بعض الأمل مع حدث مهم بالرغم من ضعف تأثيره لعدة عوامل. أرخ لظهور جديد وعودة محدودة الأثر لمن صنع مجد عمارة طوب السدابة في السودان مع بدايات القرن العشرين. عاد البريطانيون إلينا مرة أخرى برفقة هذه الخامة النبيلة في عقد الثمانينيات بصفة جديدة تقوم على الندية. حملوها على أكف الراح ليدثروا بها منشأة كبيرة ضمت مبنى سفارتهم وقنصليتهم. ليؤرخوا لحدث نادر وحالة وفاء فريدة من نوعها تجاه تلك الخامة الأثيرة بالنسبة لهم.
لم يوظفوا طوب السدابة هنا كما فعلوا أول مرة في كلية غردون التذكارية مع بدايات القرن العشرين. لم يلجئوا لذلك الطراز الكلاسيكي الضارب في القدم الذي قصدوا به من قبل التعبير عن بلادهم كدولة بالغة الأهمية وقوة استعمارية مؤثرة. لكنهم لم يتخلوا تماماً عن روح الكلاسيكية. احتاجوا إليها هنا لأن مثل هذه المنشأت تعتبر حسب الأعراف الدبلوماسية سيادية الطابع. فاستلفوا من روح ذلك الطراز الضخامة المفرضة وبعض ملامح أخرى. التي منحت العمارة هيبة فائقة وحضوراَ طاغياً يليق بمقام بلادهم التي كانت بالرغم من تراجع موقعها عالمياً ما زالت تعتبر من الدول العظمى.
فرض طوب السدابة كامل سيطرته على مجمع السفارة والقنصلية. تمدد في كل الأركان والأجزاء والتفاصيل. غطى المباني بكاملها خارجياً بما في ذلك تلك التفاصيل التي كان يلجا فيها للعناصر الخرسانية.. فوثق المنظر هنا لحالة كادت أن يتوارى فيها وجود تلك الخامة الحديثة. في موقف معاكس للمفاهيمنا السائدة عند التعامل مع مثل هذه المباني بالغة الاهمية. في حالة نادرة تغلغلت السدابة الي داخل المبنى ووصلت الي أعمق أجزائه فغطت أسطح بهو السفارة الداخلي بالكامل. في موقف اعتزاز بائن بهذه الخامة النبيلة جعلوا شعار المملكة المتحدة يرقد مستكيناً على صدر جدار السدابة الشاهق المتصدر للبهو.
من المحزن أن عدد محدود منا متع بصره بهذا الصرح الشامخ والعمارة الفريدة من نوعها. يرد ذلك لعدة عوامل. بالرغم من أن المجمع مشيد في منطقة راقية في الخرطوم شرق وعلى مرمى حجر من شارع البلدية إلا أن موقعه منزوي. الوصول إليه يتم عبر شوارع فرعية ضيقة. فاقم من أمر احتمال المرور بجواره الاحتياطات الأمنية التي تحد من الدخول لتلك الشوارع. يشمل الحظر أيضاً عملية التصوير كما هو الحال بالنسبة لمثل هذه المباني. أنتهز هذه الفرصة لكي أقدم أجزل آيات الشكر لسفيرة بريطانيا التي سمحت لي بكرم فياض قبل عدة سنوات بالدخول لكل أجزاء المجمع وتصويره بشكل مكثف من الخارج والداخل.
سطع طوب السدابة في هذا العمل بالغ التمييز بشكل باهر. وفاء لهذه الخامة الأثيرة لديهم جعلوها تتحدث بلسان حداثي مبين ليثبتوا بالدليل والبرهان مقدرتها على مجاراة الزمن. لم يكن مثل هذا الموقف مستغرباً إذ أنه جاء متسقاً مع نهج التزموا به في عاصمتهم لندن. تشهد بذلك إثنين من أهم المباني هناك واجهاتها موشحة بالطوب التي جاءت مطلية باللون الاسود. كما أشرت لذلك من قبل مبنى مجلس الوزراء تن داونق ستريت Ten Downing Street ومقر سكن رئيس الوزراء.
قدم البريطانيون من خلال هذا العمل دروساً مجانيا مهمة موجهة على وجه الخصوص لنا نحن معشر المعماريين. بشكل خاص للجهات المناط بها أمر تصميم مباني بعثاتنا الدبلوماسية في أرجاء العالم. في مثل هذه الحالات من المهم جداً التوظيف الفطن للخامات البنائية والطرازات التراثية نسبة لدلالاتها السيادية المؤثرة. على أن يتم ذلك بطرق حصيفة وفق رؤية إبداعية تنأئى بنفسها عن النقل الحرفي المباشر. في هذا السياق أشير لحالة سمعت بها تحمل في طياتها بعض جوانب إيجابية جيدة. لكننى أجد نفسي متحفظاً على جزئية محددة. الإشارة هنا لمجمع السفارة السودانية بالدوحة عاصمة دولة قطر الذي شيد قبل عدة سنوات.
الواضح أن مجموعة المعماريين السودانيين الذي أعدوا التصميم بذلوا قصارى جهدهم لمنح العمارة بصمة تراثية واضحة. استوعبوا في واجهات مجمع السفارة ملامح من المعبد الجنائزي لأهرامات مروي. اضافوا إليها إيماءات صغيرة من عمارة بيوت قرى النوبيين النيليين في شكل ثقوب مثلثة. أعجبتني هنا المزاوجة بين ملامح ومفردات من مصادر تراثية متنوعة. أشير هنا لنقطة ضعف أساسية تشكل ظاهرة مزعجة هي إقحام أقواس مسننة تصدرت الواجهات. هي للأسف ماركة مسجلة لعمارة جامعة الخرطوم الكلاسيكية كولونيولاوية المسمى بريطانية المنشأ. قد أجد بعض العذر للمصممين فهم مثلى ترعرعوا في أحضان تلك الأقواس في رحاب الجامعة.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أكتوبر 2018
جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (العمارة السودانية: مواقف ومشاهد)
رابط المقال في المدونة: أضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق