في نهاية يوم حافل بالأحداث رن هاتفي من رقم غير معروف .. جاءني من الطرف الآخر صوت إمراة مستفسرة عن إن كنت المهندس المستشار مجاهد بلال .. وبمجرد سماع الإيجاب الصادر مني بادرتني في لهجة قانونية حادة ومتحفزة بانني موقع على إقرار الإشراف لمبنى برقم لم أتذكره في منطقة لم تسعفني ذاكرتي بمشهد لى فيها ومملوك لشخص لم يمر عليّ في مخيلتي .. ثم ذكرت التهمة بوضوح .. هل تعرف المقاول فلان .. قلت لا .. أحبطتها الإجابة .. ولكنها واصلت .. هو نفذ الخرطة مقلوبة للمنزل من طابقين .. وأنت موقع على إقرار الإشراف. أنكرت معرفتي بها أو بصاحب المشروع أو بالمقاول أو بما تتحدث عنه وأنني لم أعمل من قبل في المنطقة التي ذكرتها وطلبت منها مقابلتي إن أرادت أية مساعدة.
حسناً .. حملت الأخبار العامة في الصحف اليومية بأن أكثر من نصف العينات المختبرة لحديد التسليح من قبل المواصفات والمقاييس والمطروحة في السوق غير مطابقة للمواصفات .. والسؤال ههنا .. ماهي المواصفات الخاصة بحديد التسليح و ماهو المطابق منها و ماهو غير الطابق .. والأهم من كل ذلك، ماهو أثر الخلل في عدم المطابقة المذكورة إجمالاً على مشروعات التشييد.
طيب - .. أولاً .. المواصفات الخاصة بحديد التسليح تنقسم إلى جزئين، الاول جزء خاص بالحدود المسموح بها لنسب المكونات الكيمائية كالكربون والفسفور والكبريت و النيتروجين والجزء الآخر وهو مرتبط بالأول خاص بالقيم الواجب تحقيقها في إختبار إجهادات الشد (إجهاد الخضوع و الإجهاد الأقصى) بالإضافة للإستطالة المسموح بها. وبناءً على تللك القيم يتم تصنيف الحديد بصورة عامة إلى حديد مطاوع (Mild steel) وحديد عالي المقاومة (High Tensile Steel).
ثانياً .. جزءاً من المواصفات الخاصة بحديد التسليح مرتبطة بقوانين الوحدات .. إذ أن طن الحديد يجب أن يكون وزنه ألف كيلو جرام كما أي طن لأي مادة. وبناءً على ذلك ووفق الكثافة الثقلية للمنتج وماتم التعارف عليه في أن أطوال حديد التسليح تكون إما 6 متر أو 12 متر، فإن طن الحديد مثلاً من نوع 16 ملم (5 لينية) بطول 12متر يجب أن تكون به 52 سيخة قطر كل منها 16 ملم و وزن كل منها 1.6 كيلو جرام (تقريباً) وهذه القيم المذكورة مواصفة لا تقبل المساومة.
ثالثاً .. قبل الدخول في الحسابات التوضيحية للأمر، وجب تبيان أن معظم الإنشاءات التي تتم في السودان والمتمثلة في المباني الصغيرة والمتوسطة تكون مملوكة للقطاع الخاص. ومعظم ذلك الخاص عبارة عن بيوت وعمارات مشيدة خاصة بالمغتربين. وإذا كان تقدير جهاز المغتربين ووزارة المالية لتحويلات المغتربين خارج الدورة الإقتصادية الرسمية للنظام المصرفي للبلاد تتحدث عن عشرة مليارات دولار تقريبا (أكثر من ميزانية السودان) .. يمكننا حينها تصور عدد وتشتت تلك المشروعات. والمعلومة الأهم في ذلك كله، أن معظم تلك المشروعات تكاد تكون خارج إطار الإشراف الفني والمهني المنضبط الخاص بتأكيد جودة المواد الأساسية المستخدمة وأهمها حديد التسليح.
والآن .. وجب تحويل العبارات العامة الواردة في معظم صحف البلاد باللون الأحمر نقلاً عن مجلس الوزراء والتي تتحدث عن أن معظم حديد التسليح المنتج محلياً غير مطابق للمواصفات .. وجب تحويلها إلى أرقام آملا أن يقرأها ويستوعبها كل صاحب مشروع كبير أو صغير وكل مغترب يحسب الأيام والليالي في تحويش مدخراته لتأمين مأوى له ولأبنائه .. أملى أن يتم إستيعابها لتكون المحطة الأولى الخاصة بضبط جودة المواد هي المستهلك عبر مستشاريه لا الجهات الرسمية والتى تقوم بزياراتها التفتيشية على فترات متباعدة.
والآن إلى الحقائق الآتية:
أولاً .. إن تصمم نسب حديد التسليح في المنشآت الخرسانية المسلحة تقدر بالمساحة السطحية للحديد ثم للأغراض العملية، يتم تحويل تلك المساحة السطحية إلى وزن بناءً على ماتم توضيحه من قيم سابقة .. فنقول في النهاية أن السقف الخرساني سيستهلك عشرة اطنان من الحديد (أي عشرة آلاف كيلو جرام). ومن المهم ههنا القول بأن كثيراُ من الخرط المصدقة والتي يتم بناءً على ما فيها التنفيذ لا تكون مصممة وفق حسابات علمية دقيقة بل تكون قيماً تقدرية مبنية على الخبرة والتجربة وذلك شأن طويل آخر خارج إطار هذا المقال.
عند التنفيذ .. يذهب صاحب المشروع أو المقاول إلى المغلق ليشتري عشرة أطناناً من الحديد ويدفع ثمنها ويستلم عدد 520 سيخة مقاس 16ملم بإعتبار أن الطن يحتوي علي 52 سيخة وكل سيخة من الواجب أن يكون وزنها 1.6 كيلو جرام تقريباً وفق ماورد سابقاً. مخالفة المواصفات ههنا في أن المصنع ينتج السيخ ويسمى مجازاً (16ملم) ولكنه في الحقيقة غير ذلك إذا يكون قطره أقل بنسب متفاوته. والآن لدواعي المقارنة، فلنقل أن الفرق كان (1ملم) عليه فان القطر يصبح (15ملم) .. و يكون عدد السيخ المستلم حينها يساوي 520 قطعة و لكن وزنه 9375 كيلو جراماً تقريباً بدلا عن عشرة آلاف كيلو جرامات بنسبه فاقد فى الوزن تساوي عشرة بالمائة تقريباً من الحديد الواجب إستخدامه.
وفق ذلك .. نستطيع تصور حجم الخطر المحدق بالمنشأة الخرسانية المسلحة المنفذة خارج إطار الضبط الفني والمهني لجودة المواد والمصممة بدون قيم دقيقة و حقيقية والتي قد تتعرض في بعض مراحل تنفيذها لمخاطر أخرى متعلقة بعمليات ضبط جودة تنفيذ العمليات في الموقع (Manufacturing).
نوع أخر من عمليات ضبط الجودة متعلق بقيم الإختبارت المذكورة في الأعلى والتي تؤدي إلى تصنيف الحديد، فكتيراً من الأعمال يتم تنفيذها دون تحقيق الجودة الخاصة بقيمة إختبارات الشد التي تم عليها التصميم .. فإذا كان التصميم مبنياً على حديد تسليح قوتة (460 نيوتن على المليمتر المربع) مثلاً وتم إستخدام حديد تسليح قوته (350 نيوتن على المليمتر المربع ) مثلاً حينها نكون قد إستخدمنا حديداً مخالفاً لمواصفات القوة التصميمية بنسبة 25% تقريباً وهذه نسبة كبيرة يجب حينها زيادة مساحة حديد التسليح المستخدم بأكثر من 30% وفق المعادلات التصميمية، و بالرغم من أن عوامل الأمان فى التصميم قد تعالج بعض مشكلات القيم المذكورة .. إلا أنه إذا أضفنا عليها مخالفة الوزن و سؤ الصنعة و ضبط الجودة فى الموقع فإن المشروع يكون في خطر محدق بالجميع. والإفتراضات المذكورة ههنا لما يمكن أن يحدث ليست تصورات خيالية تم إستدعاءها لإحكام الدراما والتراجيديا، بل هي عبر من واقع الممارسة المهنية الماثلة و مستوحاة من النوازل والكوارث السابقة التي يطلق عليها بالحالات العملية .. فلا يظنن ظان بأن الأرقام تتجمل ولا يحلمن حالم بأن (نقصان طن ولا نص) لن يفرق كثيراً .. فهى حسابات ليس فيها عوامل خاصة بالمجاملة وتقدير الظروف وتقليل المصروفات.
ختاماً .. هذا المقال لا أعرف من سيقرؤه على وجه الدقة .. لكنى أجزم بأن كلمة غير مطابق للمواصفات التي إحتفلت بها الصحف لا تعبر بدقة عن حجم الهدر المتوقع في الموارد والجهد والوقت إذا ما إختلطت عدم المطابقة هذه ببيئة تنفيذية غير منضبطة.
الأخ المهندس المستشار نصرالدين محمد علي مدير الإدارة العامة للمباني بوزراة التخطيط العمراني .. الأخت المهندس المستشار نادية محمود الفكي الأمين العام للمجلس الهندسي السوداني .. الأخ رئيس لجنة مراقبة مزاولة المهنة بالمجلس الهندسي السودانى .. الإجتهادات التنفيذية مشهودة ومحل إحترام وتقدير في جعل الوجود الإستشاري حقيقة في المشروعات، ولكن الوضع يحتاج لعصف ذهني يجعل صاحب العقار الذي تم تشييد منزله من طابقين مقلوباً يلجأ للإستشاري فور إكمال إجراءات التصديق لمباشرة التنفيذ .. وليس بعد وقوع الفأس في الرأس وشقه لشطرين فقط لا غير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق