يوسف إدريس - سودانيل
ها هي باخرة الرحيل تمخر عُباب البحر ، تنتقي من الأصدقاء أعذبهم سيرة وأخصهم تأثيراً في حياتنا الخاصة . مِن الذين دخلوا القلب أول مرة منذ القرن الماضي، ولم تنفك سيرتنا في صحبة دائمة ، في الوطن وفي المهاجر . إن الفراق مرٌّ وإن الحزن أكبر من الإفصاح عنه .
(2)
التقينا أول مرة في بداية السبعينات . تجولنا في المبنى الذي سيكون مقرنا الأكاديمي في قسم العمارة آنذاك في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم . ونحن نتجول في بقايا المبني الكولونيالي الذي أسس فيه البروفيسور "أليك بوتر " قسم العمارة. كان مبنى كلية العمارة الحالي كان في طور التشييد ، يبحث له في البقعة عن هوية تناسبه .كان المبني حينذاك مجاوراً لمبني المتحف - الذي كان سابقاً نفسه كان سكنا لآخر سكرتير اداري للسودان قبل الاستقلال. كنا نستعد لإجراء المقابلة التي تُحدد الميول الطبيعية والرغبة المهنية ليكون الطالب مؤهلاً للقبول .كُنا بضع وعشرون طالباً ، ضمنهم ثلاثة طالبات . كل ألوان طيف أهل السودان ، عداً أن لم يكن ضمننا طالبا من جنوب السودان، لكن في السنة اللاحقة كان هناك طالباً من جنوب الوطن عندما كان السودان واحداً .
(3)
استمرت صداقتنا خمساً وأربعين عاماً .رغم ميولنا الفكرية وخلفياتنا الثقافية المختلفة .كان "الوليد عبد العزيز "هو الحلقة التي خلقت ذلك التقارب ،بنظره الثاقب، وطرائفه خفيفة الظل وروحه الفكهة .وكانت بيننا علاقة قربي لها خصوصيتها، اكتشفتها حين عرفني ببعض أقاربي ولم اكن ادري بهم.
تجولنا معا في مديرية النيل الازرق ضمن طلاب السنة الثانية في قسم العمارة ، مع أخصائية في علم الاجتماع منتدبة من وزارة الإسكان ، وهو حقل في العمل الميداني ، خاص بتجهيز رسالة الدكتوراه لأحد أساتذتنا " عمر سالم " في اكمال مبحثه عن تخطيط الخدمات الصحية بتلك المديرية. ونحن مازلنا طلابا بالسنة الثانية بالجامعة،ومررنا برفاعة والحصاحيصا ومدني وسنار وسنجة وكوستي والمقينص والدمازين
والكرمك.وكانت في تلك الجولة مجموعة من الطرائف كان هو عمودها الفقري.
(4)
وسافرنا الي جنوب السودان بغرض دراسة حالة المسكن في جنوب الوطن ، تمهيداً لدراسة أكاديمية تضم نسيج جنوب السودان للوطن من بعد اتفاقية السلام في مارس 1972 ،ودراسة كيفية إعادة توطينهم ومررنا بتوريت وكايا وجوبا ونمولي وكتري وكانت كلها تصلح لكتب وقصص وطرائف لم تزل خالدة، وآثار الحرب التي بدأت أغسطس 1955 ماثلة قبور شهداؤها للعيان . ذاكرتنا حبلى بكل شيء .وواصلنا رحلتنا الي جامعة ماكريري بكمبالا من بعد عدة أيام قضيناها في نمولي . ومررنا في طريقنا البري بمدينة قولو .ومازلت اذكر الموقف ونحن نعبر الحدود حيث كان الجنود جيش اليوغندي هم من يقومون بتفتيشنا وتفتيش السيارة نصف نقل التي كنا نستغلها في عبورنا البري ،وعندما سالنا اين العفش المصاحب لكم ليقوم بتفتيشه،أجاب :في الطابق العلوي(UPSTAIR)،وهو يقصد سطح السيارة،فضحكنا..فغضب الجندي،واوقف التفتيش،وامرنا بالمبيتفي الخلاء حتي الصباح، وبعد ذلك قام بتفتيشنا لنعبر الحدود الي السودان بعد أن قضينا أسبوعاً في جامعة " ماكرري " .
(5)
وكانت رحلتنا للقاهرة ثم لليونان وعبرنا يوغسلافيا السابقة بالقطار الدولي إلى المجر عام 1974 . كانت الرحلة قد مونتها جمعية طلاب المعمار
بالتنسيق مع المنظمات الأكاديمية في المجر(TESCO) وألمانيا الغربية(DAAD).مجموعة من الطرائف وأقاصيص التي مازالت محفورة في الذاكرة،حيث قضينا اسبوعين في انتظار التاشيرة لدخول المجر،وكانت هناك تجارب حياتية فيما يخص تصرفنا تجاه المشاركة في الطعام والنزهة والمقالب التي واجهناها مع الحياة باثينا في اليونان ،رغم محدودية التحويل الذي حصلنا عليه من بنك وهو مبلغ لم يتجاوز ال 60 جنيها استرلينيا لكل فرد ، كان الجنيه الإسترليني يعادل (90%) من قيمة الجنيه السوداني ، و10% رسوم الشيكات بالعملة الأجنبية ! .
تخرجنا من الجامعة وتفرقت بنا اماكن العمل . فعمل" الوليد عبد العزيز " في مصلحة الطيران المدني حسبما وافقت عليه لجنة الاختيار للخدمة العامة.وظل يعمل بهمة وروح عالية ،لم يكن همه الا الوطن، وخلال عمله تم ابتعاثه للولايات المتحدة وحصل على درجة الماجستير في تخطيط المدن ،الي ان جاء التتر ليحكمونا عام 1989،وكان اول قرارتهم هي إحالته للصالح العام.
(6)
لم يعرف " الوليد عبد العزيز " الياس طريقاً لنفسه ،ولم يهاجر، ولم يترك لهم ساحة البلاد يعيسون فيها فسادا. واصل في خدمة الوطن في عمله بالقطاع الخاص،وساهم خلال مكتبه الاستشاري في تنمية دولة ارتيريا الناشئة من بعد استقلالها عن أثيوبيا ،وانجز كثيرا من مشاريع المباني ،وبنية الخدمات والتخطيط في تلك الدولة.وساهم بهمة وروح عالية بعد إكمال درجة الدكتوراه عمل بالتدريس بكلية العمارة بجامعة الخرطوم ،وساعد الكثيرين في انجاز مهامهم الاكاديمية والترقي لمستويات اكاديمية عليا.
(7)
تقابلنا قبل شهرين من رحيله بدبي وهو يشارك بالحضور في معرض طيران دبيالسنوي ،وتقابلنا في نهار ذلك اليوم ،وذهبنا لمعرض الشارقة للكتاب،وعدنا لدُبي وجلسنا نحكي عن الذكريات عندما استأنسنا في "سيتي سنتر"دبي بقهوة ستاربكس،وقابلت بعض زملائه بالطيران المدني،وحكينا وتسامرنا بالقصص والذكريات ،وودعته على أمل أن نلتقي بعد شهرين بالسودان.لكن الاقدار أبت الا ان تحمل لي في صباح يوم خميس خبر سكوت قلبه فجر الخميس ؟يا لهول الخبر ؟.أصبت بحالة شلل تام ، وما كنت أظن ان الاقدار سوف تفاجئنا بصدمة من صدمات العُمر ،.ولم يكن امامي الا ان اقول :تلك مشيئة الله .وليس لنا يد في مشيئة المولى ، عظم المولى أجره وأسكنه مسكن الصديقين والأبرار .
يوسف إدريس
أول فبراير 2016
elsadati2008@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق