محمد لطيف
صحيح أن حصة المواطن الأمريكي من المياه النقية الصحية الصالحة قد بلغت حوالي 380 لترا في اليوم.. ولكن الصحيح أيضا أن حصة الفرد من المياه في اليوم في دولة متقدمة مثل ألمانيا لا تتجاوز 129 لترا.. وتقديرات منظمة الصحة العالمية قبل سنوات كانت تقول إن من 20 إلى 30 لترا في اليوم كافية لمقابلة احتياجات المواطن في بلدان العالم النامية.. أما المفاجأة الكبرى فهي أن حصة المواطن في ولاية الخرطوم من المياه المعالجة النقية الصالحة هي 200 لتر في اليوم.. ذلك محسوبا من مجمل الإنتاج اليومي لمياه الشرب في الولاية من مختلف المصادر إلى عدد السكان الذي تقول المصادر الرسمية إنه نحو 8 ملايين نسمة خلال النهار.. هل نظلم الولاية حين نتحدث عن عجزها في توفير المياه المطلوبة في الوقت المطلوب..؟ ربما..!
ولاية الخرطوم تشرب من إحدى عشرة محطة نيلية تنتج نحو 750 ألف متر مكعب من المياه المعالجة النقية.. ومن 1890 بئرا تنتج أيضا ما يوازي ذات الكمية.. ولا تزال الخرطوم تلهث عطشى.. فأين المشكلة..؟ خروج محطة سوبا عن الخدمة نتيجة انفجار في الخط الناقل.. لا في المحطة نفسها.. أقام الدنيا ولم يقعدها.. حتى الوالي اضطر للإدلاء بتصريحات صحفية تطمينية حول الأزمة.. ولكن حين أعيد تشغيل المحطة بكفاءات سودانية خالصة.. وارتفع إنتاج المحطة بما يفوق طاقتها التشغيلية بخمسة عشر ألف متر.. نعم.. قبل الانفجار كان إنتاج المحطة مائة ألف متر.. وبعد إعادة التشغيل اندفع نحو مائة وخمسة عشر ألف متر من جوف المحطة.. فراح الناس يشربون ويغتسلون ويصبون الماء صبا.. دون رحمة.. ولم يرحمون.. فمتر الماء المكعب الذي يخرج من جوف المحطة نقيا صحيا صالحا للاستخدام الآدمي بتكلفة تبلغ الجنيهين بالتمام والكمال.. لا يدفع فيها الآدمي منا غير خمسة وسبعين قرشا لهذا المتر المكعب.. مع ملاحظة أن مبلغ الجنيهين هذا إنما يمثل تكلفة المتر المكعب في المحطة.. أي قبل الترحيل.. وتقرأ شبكة التوزيع.. مع كل ما يتطلبه التوزيع من تحديث في الشبكات ومراقبة للأداء.. ومطلوبات الضبط والكنترول إلخ.. وبغض النظر عن الجدل المتوارث حول ما إذا كانت المياه خدمة أم سلعة..؟ يظل السؤال الأخطر والأكثر إلحاحا.. كيف يمكن أن نضمن الحصول على خدمة منتظمة لسلعة حيوية مع هذا الخلل الواضح بين تكلفة الإنتاج وسعر البيع..؟ بل ما هي الخيارات المتاحة لضمان سريان الخدمة.. دون انهيار هذا المرفق الاستراتيجي مع هذا الخلل البين بين الإنتاج والتسويق..؟ ولا شك أن المواطن لا يحب مثل هذه الأسئلة التي تجعله شريكا في المسؤولية.. ولكن المنطق يقول إن من الأفضل للمواطن أن يكون شريكا في تقرير مصيره المائي قبل أن ينهار المرفق أو تأتيه الدولة بحل فوقي من عندها..!
وللأمانة فالسؤال لم أطرحه أنا بل طرحه مسؤول كنت أتحدث اليه بالأمس ففضلت نقله اليكم.. بل قدمته على تطمينات وجدتها عند البروفيسور أحمد قاسم وزير البني التحتية والمواصلات بولاية الخرطوم الذي قال لي إن مائة وعشرة مليارات جنيه قد خصصت في موازنة هذا العام لتطوير شبكات المياه.. ولكن الوزير فاجأني بحديث جد قلق عن تأهيل بيئة العمل التي أصبحت طاردة حتى أن ذوي المؤهلات والخبرات بدأوا ينسربون من بين أيدي المرافق بحثا عن أوضاع أفضل.. ملاحظة الوزير الأخيرة عن هجرة الكفاءات هي أشد ما دفعني لطرح مناقشة التزامات المستهلكين تجاه تكلفة إنتاج المياه.. خوفا من أن نصحو ذات صباح لنجد أن الكفاءات قد هاجرت.. والشبكات قد تعطلت.. والآبار قد جفت.. وأخيرا سؤال يشغل بالي: هل حقا أن مواطن الخرطوم يستهلك مياها أكثر من مواطن المدن الألمانية أم أننا نمارس هدرا للموارد.. كما في كل شيء..؟
هذا موضوع قديم.. فقط الجديد فيه.. أن وزير البنى التحتية نفسه أصبح في عداد الكوادر المغادرة..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق