في الحلقة السابقة حدثتكم عن جولتي داخل مستشفى الزيداب الريفي والتي كشفت لي سوء مستوى الخدمة الطبية والإهمال داخل عنابر المستشفى وغرف العمليات والولادة ..
خرجت من المستشفى عبر البوابة الغربية والحسرة تقتلني على محاولة اغتيال هذا المستشفى مع سبق الإصرار والترصد .. ولكن .. ما رأيته عند خروجي من المستشفى كان الأفظع، عندما التقيت بالأستاذ / مدثر يوسف الخير مدير مدرسة خديجة بنت خويلد بنات لمرحلة الأساس، والذي كان في انتظاري خارج بوابة المستشفى ، بعد أن علم بوجودي بالمنطقة من مرافقي الأستاذ / عطا، عندما هاتفه أثناء جولتي بالمستشفى، حال خروجي من المستشفى جذبني من يدي باتجاه بوابة المدرسة التي لا يفصل بينها وبوابة المستشفى سوى أمتار قليلة، وهو يشكو من تغول وكيل شركة البربري، الذي شرع في بيع الأراضي الخاصة بمشروع الزيداب الزراعي والتي لم تقتصر على الرقعة الزراعية فقط ، كما يعتقد البعض، بل طالت حتى المحلات التجارية والمدارس والأراضي الفاضية المخصصة للخدمات بالمنطقة الواقعة ضمن المشروع الذي تأسس في العام 1904على حد قوله.
وأضاف قائلاً : إن وكيل شركة البربري قد قام ببيع المدرسة الابتدائية (ب) وتم هدمها بالكامل من قبل المالك الجديد وتحوَّلت إلى أرض فضاء، وكذلك تم بيع المدرسة الابتدائية (أ) وتحولت إلى دكاكين تحيط بمدرسة خديجة بنت خويلد من ثلاث جهات، ولا تبعد هذه الدكاكين عن المدرسة أكثر من متر ونصف، وقد تحوَّلت هذه المساحات التي تفصل بين سور المدرسة والمحلات التجارية إلى محل للقمامة ومكان لقضاء حاجة المارة والعاملين بالسوق الذي أصبح يحيط بالمدرسة إحاطة السوار بالمعصم، ولم يترك أي حرم للمدرسة،بسبب سوء التخطيط والبيع العشوائي، وذكر أن الأراضي موضوع النزاع بين الأهالي ووكيل شركة البربري، كانت في الأصل أراضي زراعية تتبع لمشروع الزيداب تم نزعها بعد تعويض أصحابها، وتم تخصيصها للمرافق الخدمية لمدينة الزيداب، وأنشئت بها المستشفى والمدارس وبيوت المعلمين في ستينات القرن الماضي، ولكن للأسف تم الاعتداء عليها وبيعها مؤخراً، وكان الأجدر أن يتم تحويل هذه المباني القديمة إلى جامعات ومعاهد عليا ومراكز تدريب فنية بعد إعادة تأهيلها،وكان الأجدر الاستفادة من الناحية الشرقية للمدرسة بتشييد مخازن وتأجيرها لصالح المدرسة، خاصة وأن معظم أولياء أمور التلميذات يعيشون تحت خط الفقر، وأنا مديراً لهذه المدرسة كنت قد اعترضت على بيع هذه المدارس وناهضت قيام الدكاكين التي أحاطت بالمدرسة وتقدمت بعدة شكاوي لجهات الاختصاص والمسؤولين، مروراً بوحدة الزيداب الإدارية، ومعتمد محلية الدامر وحتى والي الولاية، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولم أجد أذناً صاغية، بل تم استدعائي واستجوابي بمحلية الدامر، بسبب دفاعي عن هذه المؤسسة التعليمية، ثم أخذني في جولة في ما تبقى من مدرسة خديجة بنت خويلد التي لا تنعم بأي خدمة، حيث ملأت الحفر ساحتها الضيقة، أما دورات المياه فهي بعيدة كل البعد عن النظافة، ووجدت الفصول الدراسية في حالة من السوء وقلة التهوية بسبب إغلاق النوافذ، وحسب قول الأستاذ/ مدثر إن المشكلة الكبرى فهي الأزقة الضيقة الواقعة بين المدرسة والدكاكين الجديدة والتي تحولت إلى مكب للقمامة وقضاء حاجة المارة، إذ لا يستطيعون فتح النوافذ بسبب الروائح المنتشرة، وقصر ارتفاع جدران المدرسة .. أثناء جولتنا بالقرب من السور الشرقي للمدرسة تصادف وجود شخص يقضي حاجته في الهواء الطلق تحت سور المدرسة ودون مراعاة حرمة مدرسة البنات، فما كان من الأستاذ مدثر إلا أن همس في أذني ( اضبط .. بالثابتة )، وما كان مني إلا أن وثقت للحدث بالكاميرا، ودعت مدير المدرسة، قاصداً أحد محلات بيع الشاي لمقابلة نفر من أبناء الزيداب، واعداً إياه بتوصيل صوت استغاثته عبر صحيفة (التيار) لعل وعسى أن تجد أذناً صاغية.
وفي المكان المحدد التقيت بعض أعضاء روابط تجمع الزيداب، وهم: (فتح الرحمن إبراهيم بري ، تاج الدين عبدالله كوليب ، الطاهر كوليب والعطا محجوب عبد الوهاب)، الذين شكوا من شروع وكيل شركة البربري المالك السابق لمشروع الزيداب الزراعي, في عرض جزء من أراضي المشروع للبيع، وبالفعل باشر البيع في جزء من أراضي السوق وعدد من المدارس وبيوت المعلمين، ومازال العرض مستمراً،وعندما سألتهم عن علاقة وكيل شركة البربري بالمشروع وكيف يحق له التصرف في بيع أراضي حكومية؟ أجابني أحدهم قائلاً: كما تعلم ويعلم الجميع أن مشروع الزيداب كان قد أنشأه الإنجليز في العام ،1904 وعند خروج الإنجليز من السودان اشتراه البربري بمبلغ 250 ألف جنيه فقط ،وكان ذلك في أواخر الخمسينات ، وتم تأميم المشروع في حكومة الأحزاب الأولى ، ثم جاء الرئيس الأسبق جعفر نميري وأكد التأميم وقام بدفع التعويضات لآل البربري الذين استلموا جزءاً كبيراً من التعويض ومازالوا، وآلت إدارته لمؤسسة الشمالية الزراعية ، ولكنا فوجئنا في عام 2005 بوكيل شركة البربري يقوم بعرض أراضي المشروع للبيع وعندما سألنا عن السبب علمنا بأن ملكية المشروع لم تحوَّل باسم حكومة السودان حتى الآن، ما دفع بوكيل البربري ينتهز الفرصة في بيع الأراضي أمام بصر وسمع السلطات المحلية، والتي لم تحرك ساكناً، مستنداً على القانون كما يقول ،وأضاف قائلاً: نحن مزارعين وأبناء منطقة توارثنا هذه الأراضي من آبائنا الذين ظلوا يزرعونها من قديم الزمان وحتى قبل قيام المشروع ولم نسمع بهذا البربري بالمنطقة ولم نشاهد أحداً من أفراد أسرته بالمنطقة، فمن أين جاء؟ ولماذا جاء في هذا التوقيت؟
وقال آخر: بعد أن فرغ وكيل البربري من بيع المدارس وبيوت المعلمين والساحات الخالية بالسوق ، اتجه لبيع أراضي السوق الجديد، والتي في الأصل كانت حواشة ضمن مشروع الزيداب،وتم تخصيصها سوقاً وخدمات للمنطقة ، بعد أن تم الاتفاق بين الوحدة الإدارية بالزيداب ومشروع الزيداب وأصحاب الحيازات بمنطقة الرهيد على أن يتم نزع هذه الحواشة وتخصيصها سوقاً جديداً لمدينة الزيداب وتعويض أصحابها بمنطقة الرهيد، وتم تعويض الفدان بفدانين، ( يعني أصبحت أراضي حكومية)، ولكنها لم تسلم من وكيل البربري الذي قام بعرضها للبيع أيضاً، بعد أن قام ببيع المدرسة الابتدائية (أ) والمدرسة الابتدائية(ب) ومنازل معلمي المرحلة المتوسطة وحرم دار المزارعين وجميع الأراضي حول المستشفى،ومازال العرض مستمراً في ظل عدم وجود الوحدة الإدارية بالمنطقة..وأضاف: إن عدم نقل الملكية لحكومة جمهورية السودان، أقرى الطرف الآخر للتمادي في بيع الأراضي قائلاً: نحن لن نقف مكتوفي الأيدي وسنناهض قررات البيع، حيث شرعنا فعلياً في عمل إجراءات قانونية لنقل السجل لحكومة السودان وسنعمل على تصعيد القضية سياسياً وإعلامياً .. وطالب الحكومة بتسجيل هذه الأراضي باسم حكومة السودان فوراً ، باعتبار أن ورثة البربري قد تسلموا جزءاً من التعويض لهذه الأراضي، وعليهم الرجوع للحكومة للمطالبة بمستحقاتهم، ولا يملكون الحق في التصرف فيها بالبيع أوالشراء.
أصل الحكاية
ويقول الأستاذ / عبدالوهاب محمد عبد الوهاب المستشار القانوني لتجمع روابط الزيداب : قام مشروع الزيداب الزراعي في العام 1905 بعد أن قرر الاحتلال البريطاني استصلاح أراضي المنطقة الواسعة المنبسطة وزراعتها بالقطن لجودة أراضيها وقربها من النيل وسهولة التحكم في الري، وقام بتعويض الأهالي ، وقبل خروج الاحتلال تم بيع المشروع لشركة تسمى شركة الزيداب الزراعية، التى تأسست فى العام 1947 ، أى قبل خروج الاحتلال، وهذه الشركة مملوكة لأسرة البربرى الذين لا علاقة لهم بمنطقة الزيداب، لا من حيث السكن ولا الصلات الأسرية، ولا ندرى لماذا قاموا بتسمية شركتهم بهذا الاسم !!، ويبدو ان ذلك تم بإيعاز من الاحتلال ، ويدل على أنه كان هناك ترتيب مسبق للبيع، وبعد فترة الاحتلال أصبح المشروع مملوكا لثلاثة أطراف، هى : شركة الزيداب الزراعية التى تمتلك فيه 15.200 فدان ، وحكومة السودان وتمتلك 8.000 فدان، بالإضافة الى امتدادات حديثة أنشئت مؤخرا، والطرف الثالث هو الأهالى ( أصحاب الملك الحر)، الواقع مباشرة على ضفاف النيل وهى أراضٍ تخص الأهالى توارثوها أبا عن جد منذ قديم العصور، واستمر الحال على ما هو عليه حتى أصدرت حكومة السودان فى العام 1968 قرارا بتأميم المشاريع الزراعية، التى تزرع القطن، وكان الهدف الرئيس من التأميم هو أن الدولة وقتها استشعرت ضرورة أن تضع يدها على محصول القطن باعتباره المحصول الرئيس فى البلاد الذى يرفد الخزينة بالعملة الصعبة، ومنذ ذلك التاريخ ظلت الحكومة تشرف على إدارة المشروع بواسطة هيئة الإصلاح الزراعى، وكان المشروع يسير على أحسن حال، وانعكس ذلك على حياة المواطنين والأهالى بعد أن قامت الحكومة بتقسيم الأراضى على المواطنين، ومما يجدر الإشارة اليه أنه بعد صدور القرار كان ينبغى على الدولة أن تقوم بتغيير سجل أراضى المشروع من اسم المالك السابق ( شركة الزيداب الزراعية) إلى اسم حكومة السودان، أسوة بما تمّ في جميع المشاريع التي تم نزعها للصالح العام، إلا أن كل ذلك لم يتمّ فى أراضي مشروعٍ ظل مسجلا باسم المالك السابق حتى الآن، وهذه الوضعية خلقت نوعا من الهلع فى نفوس المزارعين الذين ظلوا يحوزون ويتوارثون هذه الأراضى لأكثر من أربعين عاما ، ولم يكن يراودهم أدنى شك أن هذه الأراضى مملوكة لغيرهم، إلى أن ظهر فى الآونة الاخيرة وكيل شركة الزيداب الزراعية والتى تم نزع المشروع منها منذ عام 1968، مستغلا غفلة الحكومة فى عدم تعديل سجل الأراضى، وبدأ فى بيع بعض سواقي المشروع، داعيا المزارعين إلى الشراء منه ، مما خلق أجواءً من التوتر وعدم الاستقرار.. ورغم المناشدات التي أطلقها المواطنون للحكومة بغرض حل هذا الإشكال، إلا أن الدولة تقاعست كثيرا، وتمّ بيع مساحات واسعة وميادين وسرايا المشروع ومدارس وواجهات المستشفى ومنازل المعلمين، فى صورة تجسد أبشع أنواع استغلال المال العام، ويضيف قائلا: لعل الحقيقة القانونية هى أن شركة الزيداب الزراعية المملوكة لاسرة البربرى تستحق التعويض الذى صدر قراره مصاحبا قرار النزع، وتم تعويض المرحلة الأولى، التي انتهت فى العام 1975، وشملت التعويض عن الأصول والمنقولات والترع الرئيسية، وبدأ التعويض فى المرحلة الثانية عام 1984 للتعويض عن الملك الحر، وقدمت الشركة مطالبتها لوزارة المالية الاتحادية التي شكلت لجنة وزارية باشرت إجراءات التعويض لكل المشاريع المنزوعة ومن ضمنها مشروع الزيداب، فبالتالى ومن ناحية قانونية، لايجوز للشركة الرجوع للأراضى التي صدر قرار بنزعها، وصدرت توصيات بشأن التعويض، واستلمت جزءا منه ، فكيف يستقيم الامر أن تطالب بالتعويض عن النزع، ثم تقوم بتوكيل شخص لبيع هذه الأراضى المنزوعة؟!! وهذا هو الخطر الماثل الآن ، لأنه بموجب قرار التأميم فإن هذه الأراضى أصبحت حكومية 100% ، وأى محاولة للبيع أو التصرف فيها يعدّ مخالفة قانونية وتعدِّيا على مال عام، تستوجب محاكمة الشركة.. وأما أن الحكومة قد نسيت تعديل السجل فإن ذلك لا يعطي الشركة الحق فى الرجوع للأراضى حتى وإن كانت باسمها..
المعالجات التى اتخذتها الدولة
يقول الأستاذ عبد الوهاب : إن كل المعالجات التى صدرت لمعالجة قضية أراضي المشروع كانت مؤقتة وحلولا مسكِّنة، فأصدر الوالى قرارا اداريا بإيقاف البيع والذي تم الطعن فيه من قبل وكيل الشركة، وبعد ضغط شعبي كبير ، أصدر الوالي قرارا بتجديد نزع بعض السواقي التى تمّ فيها البيع، ممّا هدأ الامر قليلا ولكنه لا يمثل حلا للمعضلة الرئيسة ، وهى تسجيل مساحة 15200 فدان باسم حكومة السودان، حتى ينعم المواطن الذى يفلح الارض ويسكنها لعشرات السنين بالهدوء وراحة البال.. ومما يجدر ذكره أن مجلس ادارة المشروع هو إدارة حكومية، يعينه وزير الزراعة، وهو الحلقة الأضعف فى حل الإشكال،ولولا التحرك الجماهيري والشعبي، الذى تقوم به روابط وجمعيات المنطقة، لما اتخذت الحكومة أية خطوة فى سبيل حل المعضلة، وإلى الآن فما يزال الباب مفتوحا للاحتمالات كافة ، كأن يشرد المواطن من حواشته التي يعتمد عليها في حياته ومعيشة أبنائه، ووارد جدا أن يجدها مسجلة باسم شخص آخر، اشتراها من وكيل الشركة،طالما كان السجل مفتوحا، ولعل الحل يكمن فى تجديد نزع كل هذه الأراضى ودفع التعويض العادل للمالك السابق، أو دفع مبلغ التعويض فورا، علما بأن المالك السابق مقتنع تماما بمسألة التعويض، وقدم طلبا بذلك فى العام 2008 بواسطة مدير شركة الزيداب الزراعية (إحسان محمد السيد)، قدمته لوزارة المالية مطالبا بتكوين لجنة وزارية، واصدرت توجيهات واضحة بشأن التعويض، وقضت بالآتى: 1/ منحهم 1000 فدان زراعي بمنطقة القضارف ، 2/ منحهم مساحة 1000 فدان زراعي بنهر النيل ، 3/ منحهم مساحة 1000 متر مربع قطع سكنية بولاية الخرطوم، 4/منحهم مبلغ 100.000 جنيه، وهذه آخر التوصيات التي صدرت من وزارة المالية، بشأن تعويض شركة البربري، ولم يتقدموا لاستلامها، بل تمادوا فى البيع، والسؤال هو لماذا لم تقُم شركة البربري باستلام هذه التعويضات؟؟ ماهي آلية إلزامهم باستلام التعويضات ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق