تحقيق وتصوير عباس عزت
المنسي .. سلسلة تحقيقات أكشف لكم فيها سوداناً آخر غير الذى ترونه فى الإعلام وتسمعون عنه في الأخبار.. السودان المنسي الذي يختفي في ظلام الإعلام، يكابد مرارة الحال وشظف الواقع..رحلة ما منظور مثيلا ..مشاهد ولا في الأفلام
أرجوكم تأكدوا من وجود صندوق مناديل الورق بجواركم لمسح الدموع.. دموع الحسرة على وطن يقتله الشقاء والنعيم على ظهوره محمول..
هذه المرة من أرض الحضارات .. نوري..!
الحلقة الاولى
توجهت الاسبوع الماضى إلى الولاية الشمالية، مستهدفا آلاف السنين بزيارة آثار مملكة نبتة (كوش)،إهرامات نورى ، جبل البركل ، دير الغزالى وجبانة الكُرُو (بضم الكاف والراء) التى كثر الحديث حول ما تتعرض له مواقعها الاثرية من عمليات تخريب وتنقيب عشوائي من قبل لصوص الآثار في الكثير من مواقع أرض الحضارات ، ولا زال نزف تهريب القطع الاثرية من بعض مواقعنا مستمراً حتى الساعة..
ذهبت إلي هناك محملا بشوق العاشقين، متيما بقصص وحكايات قرأتها في كتب التاريخ عن جبل البركل وبعانخى وترهاقا والملكة أماني شيخيتو ، مترنما بكلمات الشاعر النوبى مرسى صالح سراج التي تغنى بها فنان أفريقيا الراحل محمد وردى :
حِينَ خَطَّ الـمَجْدُ في الأرْضِ دُرُوبَه
عَزْمَ تِرْهاقا وإيـمان العروبة
عَرَبَاً نـحنُ حملْناها ونُوبة
بِدِمانا مِن خلودِ الغابرين
هُوَ يحدونا إلى عِزٍّ مُبِين..
غير أن من يتجه لزيارة تلك الأماكن الأثرية لا يجد عادة سوى الإهمال المتعمد والمتمثل فى تدمير الآثار بواسطة المنقبين العشوائيين ولصوص الآثار، وضياع الكثير من التحف الأثرية والمخطوطات الحجرية النادرة التى توثق لتاريخ تلك الحضارات النوبية الضاربة فى القدم ..
إهرامات .. نوري..!!
البداية كانت من نورى.. أحد أهم المواقع الأثرية ويمثل أهرامات لملوك مملكة نبتة وهي حوالى الاثنين وثلاثين هرماً لملوك وملكات هذه الفترة ، وأكبرها هرم الملك ترهاقا أو تهارقا، ويقع فى الضفة المواجهة لجبل البركل.. والتي تعرضت للسرقة والاهمال وأصبحت اكواما من الحجارة والنفايات ..
عندما وصلت ميناء (مروي) البري كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرا وكان فى استقبالى الشاب (حسن مجذوب) ، من أبناء منطقة نوري، وقد اصطحبنى فى جولتى لزيارة آثار المنطقة، وبعد أن أجرى (حسن مجذوب) اتصالا هاتفيا بأحد الاشخاص طلب مني التوجه إلى منطقة الطرابيل حيث ينتظرنا أحد الباحثين فى التاريخ النوبي والتراث الشعبي..
استقللنا الحافلة(الهايس) إلى وسط مدينة نورى، ومن هناك استقللنا (ركشة) قاصدين منطقة الطرابيل ..
نوري.. والماء فوق ظهورها محمول!!
سألته عن أحوال الناس فى مدينة نوري.. أجابني : نوري تفتقر للخدمات العامةمثل الكهرباء والمياه ثم أردف قائلا : هل تصدق أن بعض أحياء نوري لم تصلها خدمات الكهرباء حتى الآن؟ وذلك بالرغم من أنها على مرمى حجر من سد مروى، وأن شبكة مياه المدينة متآكلة وكثيرة الأعطاب وأن تعليم مرحلة الأساس يكلف مبالغ باهظة ،الأمر الذى ساهم فى تسرب أعداد كبيرة من التلاميذ الفقراء واليتامى.. والطلاب الذين تلقوا تعليما جامعيا لم يجدوا وظائف.. اعداد كبيرة من شباب المنطقة هجروا المنطقة بحثا عن الذهب، لعدم وجود مشاريع تنموية تستقطب الشباب.. نسبة الفقر بين كبار السن عالية جدا ولا توجد منظمات مجتمع مدنى تقوم برعاية المسنين والفقراء والمشردين.. منظمات المجتمع المدنى فى غياب تام عن نورى.. والدولة تأخذ ولا تقدم شيئا.. لخص لى أحوال نوري وسكانها فى مجموعة صور قاتمة..
حضرنا.. ولم نجدكم!!
وبعدة مسيرة 5 كلم تقريبا ، انحرف سائق الركشة عن طريق الأسفلت الذى يؤدي إلى سد مروي تجاه الغرب, سالكا طريقا رمليا يتوسط أكواما من صخور الجرانيت المتناثرة بالمنطقة والتى بدت كأنها بقايا مبانٍ من العهد النوبي القديم، وسار بنا مسافة 500 متر وتوقف أمام لافتة خيمة شرطة السياحة لأخذ الأذن بالدخول.. نظرنا بداخل الخيمة ولم يكن بها أحد، وبدت خلف الخيمة مجموعة من الاهرامات المتصدعة تحيط بها الكثبان الرملية..
سألت مرافقى حسن مجذوب.. أين أرض الحضارات؟ أجابنى قائلا: أرض الحضارات اندثرت تحت الرمال، وتحت وطأة السرقات المتكررة التي تتعرض لها كنوزنا الأثرية في نورى بصورة واضحة للعيان وأصبحت التساؤلات حول كيفية ردع لصوص الآثار وحماية التراث النوبى من السقوط في أيديهم وتمكينهم من المتاجرة فيه بثمن بخس ، وكذلك حالة الإهمال في عدة مناطق أثرية ، حيث تحول بعضها إلى مقالب للقمامة وتعدّى الأهالي على مقابر النبى عزير( كما يقولون) وتم تحويلها إلى حواشات زراعية..
أرض (الصالحين)!!
واضاف بحسرة: كل هذا التدهور حدث فى السنوات القليلة الماضية، فقد كانت منطقة الاهرامات تسمى وما زالت تعرف ب(الصالحين) وسبب التسمية يعود الى زمن بعيد عندما وجد بعض الاهالى جثمانا بكامل هيئته فى أحد المدافن عندما كانوا يحفرون بالجبانة لدفن ميت لديهم ، وعندما وجدوا الجثة المكتشفة بكامل هيئتها حسبوا أن الميت رجل صالح، ومن ذلك الزمان سميت المنطقة بالصالحين وأصبحت مزارا يقصده الناس فى المناسبات الدينية والاعياد.. واذكر عندما كنا صغارا (الكلام لحسن مجذوب), نجد بعض الأشياء الأثرية والتماثيل التى لم نكن نعرف قيمتها التاريخية، وكان الناس يأخذون الحجارة لاستعمالاتهم المنزلية, وكثيرا ما نسمع بزيد من الناس , وجد تمثالا وسافر باللورى لبيعه بالخرطوم بخمسة جنيهات, ختم حديثه قائلا: ولكن المنطقة ما زالت حتى الآن تحتوى على كنوز تحت الارض وتحتاج لمن يهتم بها، مؤكدا تدهور حالة الاهرامات وحاجتها لترميم عاجل بجانب إقامة اسوار واستراحات مجهزة بكل سبل الراحة لزوار المنطقة، ورصف الطريق المؤدى لمنطقة الاهرامات ووضع المنطقة على الخريطة السياحية لأرض الحضارات (ان وجدت خريطة من أصله)..
غياب الإرشاد.. والإعلام!!
وقال حسن مجذوب: إن منطقة نورى مهملة سياحيًّا رغم ما بها من صروح أثرية وتاريخية هامة، كهرم ترهاقا وآثار مقابر النبى (عزير) المطمورة تحت أكوام الرمال على مدى قرون طويلة، ومنطقة آثار دير الغزالى وغيرها من المشاهد الأثرية المهمة التي أهملتها الدولة في استثمارها سياحيًّا، والمستفيد من هذا الإهمال بالقطع لصوص الآثار ومافيا تجارتها،
وتساءل عن دور كلية الآثار بكريمة فى توعية أهالى المنطقة بأهمية الآثار!!وخلاصة القول: ما الفائدة من آثار كانت وما تزال مجهولة تنتظر من يعرف كنهها، ويحدد تاريخها، ويميز مدلولاتها، دون أن يقوم الإعلام بدوره في التعريف بها، أو التعليم بواجبه في تضمينها بالمقررات الدراسية، أو الجهات المناط بها حماية تلك الآثار من حكومات ولائية أو الهيئة العامة للسياحة والآثار ..
نهب الأثار!!
أما الباحث فى التاريخ والتراث النوبى والشعبى والدكتور الصيدلانى أبو زيد أبو زيد أحمد الرضى الذى التقيت به فى منطقة الطرابيل فيقول: ليس بخافٍ تكرارُ حالات انتهاك العشرات من تلك المواقع في وضح النهار من قبل عصابات سرقة الآثار يعاونهم متخصصون ممولون من قبل بعض دول الجوار ومن دول غربية، حيث كانت مواقعنا الاثرية مهجورة دون حراسة واهتمام من قبل الدولة، فغدت نهبا لكل عابث.. ما حملنا على التأكيد على حتمية إيلاء تشريع برلماني سريع يقضي بتشكيل منظومات وأجهزة حماية خاصة لجميع مواقعنا الأثرية في الشمال بالتنسيق مع جهات الاختصاص فى وزارة الداخلية والهيئة العامة للآثار والسياحة، تتكفل بمهام فرض حماية صارمة على جميع مواقعنا الآثرية التي تتعرض كل يوم للهتك والسرقة والنهب وتنقيب العصابات واللصوص بصورة عشوائية حتى غدت العديد من تلك المواقع مواقع خربة بكل معنى الكلمة وضاعت قيمتها التاريخية إلى الأبد..
ويقول أبو زيد إن منطقة إهرامات نورىي أو (طرابيل نوري) كما يسميها البعض، وهى كلمة عبرية تعنى المقابر, تضم اكثر من 22 هرم بالإضافة للمقابر الكوشية القديمة، وبها ايضا قبر الملك ترهاقا الذى ينحدر من الأسرة الخامسة والعشرين لممالك النوبة القديمة، والذى حكم السودان ومصر وفلسطين قبل الميلاد، وكلمة (نوري) فى اللغة النوبية تعنى (الجبانة العظيمة أو الارض المقدسة)، كما يوجد بالقرب منها مقام النبى (عزير) , الذى خصصت له الحكومة البريطانية مساحة تقدر بعشرة أفدنة إبان حكمها للسودان, إلا أنه بمجرد خروج المستعمر من السودان قام أهالى نوري القديمة بالتعدي على أراضي المقام وحولوها إلى حواشات زراعية, ولم تتدخل السلطات لحماية هذا التاريخ القديم الذي كان مزارا لأهالى نوري قبل سنوات قليلة يزوره الأهالب ويقيمون فيه الاحتفالات وصلاة العيد، والآن تم تحويله إلى مزارع خاصة. وفيما يتعلق بهرم ترهاقا فقد كان يوجد به مدخلان اثنان : مدخل من ناحية شروق الشمس وآخر من ناحية الغروب.. وقد تعرضت هذه المداخل لعوامل الزحف الصحراوى وتم دفنها بالكامل وتعرضت كل الحجارة المنقوشة التى كنا نشاهدها عندما كنا صغارا للسلب والنهب، وكانت عبارة عن مخطوطات من حجر الجرانيت بها نقوش وصور للمعارك الحربية, كما كانت هناك لوحات إرشادية من زمن الانجليز تمت سرقتها من قبل تجار الخردة.
وأضاف أبو زيد :إن هذه الآثار ليست لها مساحة معلومة, وتحتاج الى تحديد مواقعها وتسويرها حتى لا يتعدى عليها بالبنيان، كما تحتاج إلى زراعة مصدات الرياح للحد من الزحف الصحراوى،إضافة إلى تمهيد الطرق المؤدية إليها ويضيف قائلا بحسرة: كانت هذه المنطقة عاصمة العالم القديم (السودان ومصر وفلسطين)قبل آلاف السنين، وعلى الرغم من عوامل التعرية والزحف الصحراوى المتواصل إلا أنها ما زالت تقاوم عوامل الطبيعة، ويدل هذا على عظمة الذين شيدوها وقدرتهم الفائقة فى اختيار المواد التى تتحمل عوامل الطقس المتقلبة على مر آلاف السنين.. ويتميز حجر (السونج) الذى استخدم فى بناء الاهرامات بقدرته على تحمل عوامل الزمن ولا يتوفر إلا بالقرب من ضفاف النيل. وختم حديثه قائلا: المطلوب من المحلية و هيئة السياحة والآثار أن تقوم بتوفير الخدمات اللازمة لخدمة السياح والزوار القادمين من مختلف انحاء العالم وتوفير أدلاّء أو مرشدين سياحيين وكتب مكتوبة بعدة لغات عالمية وتسمية هذه الإهرامات ومن فيها والفترة التي عاشوا فيها وتسوير مناطق الآثار وجعل المداخل والمخارج محروسة منعا للسرقات التي تحدث ، فقد اختفت اشياء كثيرة كانت موجودة بالمنطقة.وكذلك لا بد من توفير خدمات الاتصال ونشر البيانات السياحية فى الشبكة العنكبوتة العالمية (الإنتر نت ) وعمل خريطة سياحية تسهل مهمة السائح، وتشييد الاستراحات ودورات المياه العامة بالقرب من مناطق الآثار، كما يلزم وجود دليل سياحى ملمٍّ باللغات الاجنبية، كما لفت إلى اهمية إنشاء منتجع سياحى بمنطقة نوري يضم متحفا صغيرا وبازارا لبيع التذكارات الصغيرة من المنطقة و توضيح أهمية السياحة في محلية مروي المتخمة بالأماكن الأثرية وقريبة من الخرطوم العاصمة، وأصبحت المسافات أقصر بسبب شبكة الطرق الجديدة، فرغم أن المنطقة فقيرة ماليًّا، إلا أنها غنية تراثيًّا ، ينبغي الاهتمام بعمل مشروع سياحي متكامل في أرض الحضارات باستثمار كل قطعة حجر تراثية لدينا، وسيدر دخلاً بالعملات الأجنبية ، ويحرك الواقع التجاري.
ونبه إلى أهمية عمل حملة لهذه الأماكن بوسائل الاتصال الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى والاتصال بشركات السياحة وعمل تنسيق معها ومع الفنادق الموجودة بالمنطقة على قلتها للعمل على تنشيط دورها وتعميق دور الإعلام وتنظيم رحلات لطلاب المدارس والجامعات واقامة المهرجانات السنوية وتنظيم ماراثون سنوي تحت سفح البركل تنقله القنوات الفضائية ، بجانب توفير خدمات سياحية، كفنادق للسياح تليق بهم، والاهتمام بمستوى الفندقة، بالإضافة إلى دراسة إنشاء متحف بجوار الاهرامات ، وتدريب وتوفير عمالة ماهرة قادرة على جذب السائح، والأهم أن تتوفر نية صادقة لدى المسؤولين فى التطوير.
الوصية بالمهلة..
واخيرا نوصى القائمين بمهرجان البركل القادم, ان يتم تخصيص يوم كامل من أيام المهرجان لآثار نورى, حتى يتم التعريف بها , لما تضمّه من عدد كبير من الاهرامات والآثار..
ونواصل ..
المنسي .. سلسلة تحقيقات أكشف لكم فيها سوداناً آخر غير الذى ترونه فى الإعلام وتسمعون عنه في الأخبار.. السودان المنسي الذي يختفي في ظلام الإعلام، يكابد مرارة الحال وشظف الواقع..رحلة ما منظور مثيلا ..مشاهد ولا في الأفلام
أرجوكم تأكدوا من وجود صندوق مناديل الورق بجواركم لمسح الدموع.. دموع الحسرة على وطن يقتله الشقاء والنعيم على ظهوره محمول..
هذه المرة من أرض الحضارات .. نوري..!
الحلقة الاولى
توجهت الاسبوع الماضى إلى الولاية الشمالية، مستهدفا آلاف السنين بزيارة آثار مملكة نبتة (كوش)،إهرامات نورى ، جبل البركل ، دير الغزالى وجبانة الكُرُو (بضم الكاف والراء) التى كثر الحديث حول ما تتعرض له مواقعها الاثرية من عمليات تخريب وتنقيب عشوائي من قبل لصوص الآثار في الكثير من مواقع أرض الحضارات ، ولا زال نزف تهريب القطع الاثرية من بعض مواقعنا مستمراً حتى الساعة..
ذهبت إلي هناك محملا بشوق العاشقين، متيما بقصص وحكايات قرأتها في كتب التاريخ عن جبل البركل وبعانخى وترهاقا والملكة أماني شيخيتو ، مترنما بكلمات الشاعر النوبى مرسى صالح سراج التي تغنى بها فنان أفريقيا الراحل محمد وردى :
حِينَ خَطَّ الـمَجْدُ في الأرْضِ دُرُوبَه
عَزْمَ تِرْهاقا وإيـمان العروبة
عَرَبَاً نـحنُ حملْناها ونُوبة
بِدِمانا مِن خلودِ الغابرين
هُوَ يحدونا إلى عِزٍّ مُبِين..
غير أن من يتجه لزيارة تلك الأماكن الأثرية لا يجد عادة سوى الإهمال المتعمد والمتمثل فى تدمير الآثار بواسطة المنقبين العشوائيين ولصوص الآثار، وضياع الكثير من التحف الأثرية والمخطوطات الحجرية النادرة التى توثق لتاريخ تلك الحضارات النوبية الضاربة فى القدم ..
إهرامات .. نوري..!!
البداية كانت من نورى.. أحد أهم المواقع الأثرية ويمثل أهرامات لملوك مملكة نبتة وهي حوالى الاثنين وثلاثين هرماً لملوك وملكات هذه الفترة ، وأكبرها هرم الملك ترهاقا أو تهارقا، ويقع فى الضفة المواجهة لجبل البركل.. والتي تعرضت للسرقة والاهمال وأصبحت اكواما من الحجارة والنفايات ..
عندما وصلت ميناء (مروي) البري كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة عصرا وكان فى استقبالى الشاب (حسن مجذوب) ، من أبناء منطقة نوري، وقد اصطحبنى فى جولتى لزيارة آثار المنطقة، وبعد أن أجرى (حسن مجذوب) اتصالا هاتفيا بأحد الاشخاص طلب مني التوجه إلى منطقة الطرابيل حيث ينتظرنا أحد الباحثين فى التاريخ النوبي والتراث الشعبي..
استقللنا الحافلة(الهايس) إلى وسط مدينة نورى، ومن هناك استقللنا (ركشة) قاصدين منطقة الطرابيل ..
نوري.. والماء فوق ظهورها محمول!!
سألته عن أحوال الناس فى مدينة نوري.. أجابني : نوري تفتقر للخدمات العامةمثل الكهرباء والمياه ثم أردف قائلا : هل تصدق أن بعض أحياء نوري لم تصلها خدمات الكهرباء حتى الآن؟ وذلك بالرغم من أنها على مرمى حجر من سد مروى، وأن شبكة مياه المدينة متآكلة وكثيرة الأعطاب وأن تعليم مرحلة الأساس يكلف مبالغ باهظة ،الأمر الذى ساهم فى تسرب أعداد كبيرة من التلاميذ الفقراء واليتامى.. والطلاب الذين تلقوا تعليما جامعيا لم يجدوا وظائف.. اعداد كبيرة من شباب المنطقة هجروا المنطقة بحثا عن الذهب، لعدم وجود مشاريع تنموية تستقطب الشباب.. نسبة الفقر بين كبار السن عالية جدا ولا توجد منظمات مجتمع مدنى تقوم برعاية المسنين والفقراء والمشردين.. منظمات المجتمع المدنى فى غياب تام عن نورى.. والدولة تأخذ ولا تقدم شيئا.. لخص لى أحوال نوري وسكانها فى مجموعة صور قاتمة..
حضرنا.. ولم نجدكم!!
وبعدة مسيرة 5 كلم تقريبا ، انحرف سائق الركشة عن طريق الأسفلت الذى يؤدي إلى سد مروي تجاه الغرب, سالكا طريقا رمليا يتوسط أكواما من صخور الجرانيت المتناثرة بالمنطقة والتى بدت كأنها بقايا مبانٍ من العهد النوبي القديم، وسار بنا مسافة 500 متر وتوقف أمام لافتة خيمة شرطة السياحة لأخذ الأذن بالدخول.. نظرنا بداخل الخيمة ولم يكن بها أحد، وبدت خلف الخيمة مجموعة من الاهرامات المتصدعة تحيط بها الكثبان الرملية..
سألت مرافقى حسن مجذوب.. أين أرض الحضارات؟ أجابنى قائلا: أرض الحضارات اندثرت تحت الرمال، وتحت وطأة السرقات المتكررة التي تتعرض لها كنوزنا الأثرية في نورى بصورة واضحة للعيان وأصبحت التساؤلات حول كيفية ردع لصوص الآثار وحماية التراث النوبى من السقوط في أيديهم وتمكينهم من المتاجرة فيه بثمن بخس ، وكذلك حالة الإهمال في عدة مناطق أثرية ، حيث تحول بعضها إلى مقالب للقمامة وتعدّى الأهالي على مقابر النبى عزير( كما يقولون) وتم تحويلها إلى حواشات زراعية..
أرض (الصالحين)!!
واضاف بحسرة: كل هذا التدهور حدث فى السنوات القليلة الماضية، فقد كانت منطقة الاهرامات تسمى وما زالت تعرف ب(الصالحين) وسبب التسمية يعود الى زمن بعيد عندما وجد بعض الاهالى جثمانا بكامل هيئته فى أحد المدافن عندما كانوا يحفرون بالجبانة لدفن ميت لديهم ، وعندما وجدوا الجثة المكتشفة بكامل هيئتها حسبوا أن الميت رجل صالح، ومن ذلك الزمان سميت المنطقة بالصالحين وأصبحت مزارا يقصده الناس فى المناسبات الدينية والاعياد.. واذكر عندما كنا صغارا (الكلام لحسن مجذوب), نجد بعض الأشياء الأثرية والتماثيل التى لم نكن نعرف قيمتها التاريخية، وكان الناس يأخذون الحجارة لاستعمالاتهم المنزلية, وكثيرا ما نسمع بزيد من الناس , وجد تمثالا وسافر باللورى لبيعه بالخرطوم بخمسة جنيهات, ختم حديثه قائلا: ولكن المنطقة ما زالت حتى الآن تحتوى على كنوز تحت الارض وتحتاج لمن يهتم بها، مؤكدا تدهور حالة الاهرامات وحاجتها لترميم عاجل بجانب إقامة اسوار واستراحات مجهزة بكل سبل الراحة لزوار المنطقة، ورصف الطريق المؤدى لمنطقة الاهرامات ووضع المنطقة على الخريطة السياحية لأرض الحضارات (ان وجدت خريطة من أصله)..
غياب الإرشاد.. والإعلام!!
وقال حسن مجذوب: إن منطقة نورى مهملة سياحيًّا رغم ما بها من صروح أثرية وتاريخية هامة، كهرم ترهاقا وآثار مقابر النبى (عزير) المطمورة تحت أكوام الرمال على مدى قرون طويلة، ومنطقة آثار دير الغزالى وغيرها من المشاهد الأثرية المهمة التي أهملتها الدولة في استثمارها سياحيًّا، والمستفيد من هذا الإهمال بالقطع لصوص الآثار ومافيا تجارتها،
وتساءل عن دور كلية الآثار بكريمة فى توعية أهالى المنطقة بأهمية الآثار!!وخلاصة القول: ما الفائدة من آثار كانت وما تزال مجهولة تنتظر من يعرف كنهها، ويحدد تاريخها، ويميز مدلولاتها، دون أن يقوم الإعلام بدوره في التعريف بها، أو التعليم بواجبه في تضمينها بالمقررات الدراسية، أو الجهات المناط بها حماية تلك الآثار من حكومات ولائية أو الهيئة العامة للسياحة والآثار ..
نهب الأثار!!
أما الباحث فى التاريخ والتراث النوبى والشعبى والدكتور الصيدلانى أبو زيد أبو زيد أحمد الرضى الذى التقيت به فى منطقة الطرابيل فيقول: ليس بخافٍ تكرارُ حالات انتهاك العشرات من تلك المواقع في وضح النهار من قبل عصابات سرقة الآثار يعاونهم متخصصون ممولون من قبل بعض دول الجوار ومن دول غربية، حيث كانت مواقعنا الاثرية مهجورة دون حراسة واهتمام من قبل الدولة، فغدت نهبا لكل عابث.. ما حملنا على التأكيد على حتمية إيلاء تشريع برلماني سريع يقضي بتشكيل منظومات وأجهزة حماية خاصة لجميع مواقعنا الأثرية في الشمال بالتنسيق مع جهات الاختصاص فى وزارة الداخلية والهيئة العامة للآثار والسياحة، تتكفل بمهام فرض حماية صارمة على جميع مواقعنا الآثرية التي تتعرض كل يوم للهتك والسرقة والنهب وتنقيب العصابات واللصوص بصورة عشوائية حتى غدت العديد من تلك المواقع مواقع خربة بكل معنى الكلمة وضاعت قيمتها التاريخية إلى الأبد..
ويقول أبو زيد إن منطقة إهرامات نورىي أو (طرابيل نوري) كما يسميها البعض، وهى كلمة عبرية تعنى المقابر, تضم اكثر من 22 هرم بالإضافة للمقابر الكوشية القديمة، وبها ايضا قبر الملك ترهاقا الذى ينحدر من الأسرة الخامسة والعشرين لممالك النوبة القديمة، والذى حكم السودان ومصر وفلسطين قبل الميلاد، وكلمة (نوري) فى اللغة النوبية تعنى (الجبانة العظيمة أو الارض المقدسة)، كما يوجد بالقرب منها مقام النبى (عزير) , الذى خصصت له الحكومة البريطانية مساحة تقدر بعشرة أفدنة إبان حكمها للسودان, إلا أنه بمجرد خروج المستعمر من السودان قام أهالى نوري القديمة بالتعدي على أراضي المقام وحولوها إلى حواشات زراعية, ولم تتدخل السلطات لحماية هذا التاريخ القديم الذي كان مزارا لأهالى نوري قبل سنوات قليلة يزوره الأهالب ويقيمون فيه الاحتفالات وصلاة العيد، والآن تم تحويله إلى مزارع خاصة. وفيما يتعلق بهرم ترهاقا فقد كان يوجد به مدخلان اثنان : مدخل من ناحية شروق الشمس وآخر من ناحية الغروب.. وقد تعرضت هذه المداخل لعوامل الزحف الصحراوى وتم دفنها بالكامل وتعرضت كل الحجارة المنقوشة التى كنا نشاهدها عندما كنا صغارا للسلب والنهب، وكانت عبارة عن مخطوطات من حجر الجرانيت بها نقوش وصور للمعارك الحربية, كما كانت هناك لوحات إرشادية من زمن الانجليز تمت سرقتها من قبل تجار الخردة.
وأضاف أبو زيد :إن هذه الآثار ليست لها مساحة معلومة, وتحتاج الى تحديد مواقعها وتسويرها حتى لا يتعدى عليها بالبنيان، كما تحتاج إلى زراعة مصدات الرياح للحد من الزحف الصحراوى،إضافة إلى تمهيد الطرق المؤدية إليها ويضيف قائلا بحسرة: كانت هذه المنطقة عاصمة العالم القديم (السودان ومصر وفلسطين)قبل آلاف السنين، وعلى الرغم من عوامل التعرية والزحف الصحراوى المتواصل إلا أنها ما زالت تقاوم عوامل الطبيعة، ويدل هذا على عظمة الذين شيدوها وقدرتهم الفائقة فى اختيار المواد التى تتحمل عوامل الطقس المتقلبة على مر آلاف السنين.. ويتميز حجر (السونج) الذى استخدم فى بناء الاهرامات بقدرته على تحمل عوامل الزمن ولا يتوفر إلا بالقرب من ضفاف النيل. وختم حديثه قائلا: المطلوب من المحلية و هيئة السياحة والآثار أن تقوم بتوفير الخدمات اللازمة لخدمة السياح والزوار القادمين من مختلف انحاء العالم وتوفير أدلاّء أو مرشدين سياحيين وكتب مكتوبة بعدة لغات عالمية وتسمية هذه الإهرامات ومن فيها والفترة التي عاشوا فيها وتسوير مناطق الآثار وجعل المداخل والمخارج محروسة منعا للسرقات التي تحدث ، فقد اختفت اشياء كثيرة كانت موجودة بالمنطقة.وكذلك لا بد من توفير خدمات الاتصال ونشر البيانات السياحية فى الشبكة العنكبوتة العالمية (الإنتر نت ) وعمل خريطة سياحية تسهل مهمة السائح، وتشييد الاستراحات ودورات المياه العامة بالقرب من مناطق الآثار، كما يلزم وجود دليل سياحى ملمٍّ باللغات الاجنبية، كما لفت إلى اهمية إنشاء منتجع سياحى بمنطقة نوري يضم متحفا صغيرا وبازارا لبيع التذكارات الصغيرة من المنطقة و توضيح أهمية السياحة في محلية مروي المتخمة بالأماكن الأثرية وقريبة من الخرطوم العاصمة، وأصبحت المسافات أقصر بسبب شبكة الطرق الجديدة، فرغم أن المنطقة فقيرة ماليًّا، إلا أنها غنية تراثيًّا ، ينبغي الاهتمام بعمل مشروع سياحي متكامل في أرض الحضارات باستثمار كل قطعة حجر تراثية لدينا، وسيدر دخلاً بالعملات الأجنبية ، ويحرك الواقع التجاري.
ونبه إلى أهمية عمل حملة لهذه الأماكن بوسائل الاتصال الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى والاتصال بشركات السياحة وعمل تنسيق معها ومع الفنادق الموجودة بالمنطقة على قلتها للعمل على تنشيط دورها وتعميق دور الإعلام وتنظيم رحلات لطلاب المدارس والجامعات واقامة المهرجانات السنوية وتنظيم ماراثون سنوي تحت سفح البركل تنقله القنوات الفضائية ، بجانب توفير خدمات سياحية، كفنادق للسياح تليق بهم، والاهتمام بمستوى الفندقة، بالإضافة إلى دراسة إنشاء متحف بجوار الاهرامات ، وتدريب وتوفير عمالة ماهرة قادرة على جذب السائح، والأهم أن تتوفر نية صادقة لدى المسؤولين فى التطوير.
الوصية بالمهلة..
واخيرا نوصى القائمين بمهرجان البركل القادم, ان يتم تخصيص يوم كامل من أيام المهرجان لآثار نورى, حتى يتم التعريف بها , لما تضمّه من عدد كبير من الاهرامات والآثار..
ونواصل ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق