المنسي .. سلسلة تحقيقات أكشف لكم فيها سوداناً آخر غير الذي ترونه في الإعلام وتسمعون عنه في الأخبار.. السودان المنسي الذي يختفي في ظلام الإعلام، يكابد مرارة الحال وشظف الواقع..رحلة ما منظور مثيلا، مشاهد ولا في الأفلام صوَّرتها لكم بقلمي والكاميرا التي لا تنفصل مني قبل قراءة التحقيق، ارجوكم تأكدوا من وجود صندوق مناديل الورق بجواركم لمسح الدموع .. دموع الحسرة على وطن يقتله الشقاء والنعيم على ظهره محمول..
عباس عزت
هذه المرة .. من قرى الرباطاب
الحلقة الأولى
قال محدثي ونحن نشرب شاي الصباح بأحد مقاهي سوق عطبرة، بعد أداء صلاة الفجر بالجامع العتيق: طلبنا حضور كاميرتك لتعكس للمسؤولين والرأي العام ما لحق بمناطق الرباطاب (محلية أبوحمد) من ظلم وإجحاف في التنمية رغم الوعود المتكررة من قادة الوطني, وعندما قام سد مروي وبحكم أنه مشروع تنموي ضخم يعم خيره كافة الوطن وقد حدث ذلك، كنا نعشم أن الخير سيأتي إلينا، ويتحوَّل حالنا بفضل الطاقة الرخيصة إلى حال أفضل وتنمية أوسع.
ثم أضاف سائلا: هل تعلم أن الكهرباء التي أنتجها السد لم تصل إلى أبوحمد التي تقع البحيرة تحت أقدامها؟، والتي وصلت كهربته إلى كل ولايات السودان إلا أبوحمد ومناطق الرباطاب؟.. ثم استرسل قائلا: نحن نريد حقنا في التنمية، نريد الكهرباء لكي نزرع، لكي نحافظ على أراضينا، لكي نبقى في قرانا ومزارعنا، نتطلع إلى مستقبل أفضل كما هو شأن البشر في كل مكان.. نريد الاستقرار والطمأنينة في أوطاننا لأن الجوع يجلب المساوي كلها حمانا الله وحماكم من هول الجوع ومن شرور الجوع..
لا نريد وعودا ولا مزيد من الخداع الذي يبثه البعض تخديرا لمطالب الناس، ولن نقف بباب مسئول نستجديه حقنا فقد جاءوا وقالوا قولا كثيرا وذهب ما قالوه وتبخر وبقى لدينا سوء الظن بمن يلي أمرنا..
كان هذا هو الأستاذ/ عبدالله علي سر الختم (رئيس مجلس شورى منطقة أبوحمد), الذي اتفقت معه على اللقاء في ذلك المكان والزمان, لنتحرك سويا إلى مناطق الرباطاب, بناءً على الاتصالات الهاتفية المتكررة من أبناء المنطقة، للوقوف على أوضاعها المأساوية, بهدف تسليط الضوء على مجمل الأوضاع هناك وكشفها بكل وضوح وأمانة, وذلك من خلال هذا الاستطلاع المصور, والمزود بإفادات سكان المنطقة, لنقل الصورة مكتملة وايصالها على طبيعتها إلى أولي الأمر وفى مقدمتهم رئيس الجمهورية..
تحركنا من عطبرة بعد أداء صلاة الفجر، كما ذكرت عبر منطقة خليوة التي يعج طريقها بالمطبات الصناعية والمتاريس التي وضعها سكان الأحياء والقرى التي تقع على شريط الأسفلت وحتى دار مالي, ليحدوا من كثرة حوادث المرور التي تقع بهذا الشارع، الذي أصبح مكتظاً بجميع أنواع المركبات المتجهة إلى مناطق التعدين, حسب إفادة مرافقي, الأستاذ/ عبدلله علي سر الختم, ولكنه أردف قائلا: (الحادث قضاء وقدر)..
مررنا بمناطق السلمة والتلواب والسعدابية, ومصنع أسمنت بربر بالمكايلاب, وهنا أشار محدثي إلى أن جميع عمالة المصنع من خارج المنطقة (في إشارة إلى تهميش أبناء المنطقة),..
مررنا بقرية المخيرف وهي (بربر القديمة), كما علمت من محدثي وحتى مدينة العبيدية, التي بدأت تلوح من بعدها المعاناة في طريق الأسفلت الذي بدأ وكأن زلزالا قد ضربه, فقد تصدعت فيه أجزاء كبيرة بفعل الأمطار والسيول التي ضربت المنطقة قبل عامين, إضافة إلى الأخطاء الهندسية الواضحة في الكباري والمعابر الضيقة والتي لا تتناسب مع وادي الحمار الذي جرف الطريق ودمر الكباري والمعابر الصغيرة التي تتخلله, ولم تمتد له يد الصيانة حتى الآن.. وبعد مسيرة 30 كلم تقريبا قضيناها في المناورة وتفادي الحفر والتحويلات التي وضعتها وزارة الطرق والجسور, انحرفنا باتجاه الغرب, نحو مدينة الشريك الريفية, عبر طريق وعر امتد لمسافة 8 كيلومترات, وعند مدخل المدينة يستقبلك هيكل مدرسة الشريك الثانوية والذي ظل قابعا في مكانه دون اكتمال, إذ توقف العمل فيه منذ ثلاث سنوات تقريبا, (تقوم بتشييده إحدى المنظمات الخيرية كما علمت).. وفي طريقنا إلى قلب المدينة سالكين طريقا يتوسط عددا من البيوت المتهدمة بفعل السيول والأمطار,
فور دخولنا إلى وسط القرية سالكين طريقا يتوسط الأراضي المملوءة بالبيوت المتهدمة والمنازل المبعثرة في كل الاتجاهات، ووصولنا سوق المدينة البائس التقينا بالسيد/ الزاكي إبراهيم حميد (رئيس اتحاد وحدة الشريك ورئيس اللجنة الشعبية بقرية ندى),
الذي وصف لنا أوضاع المنطقة إجمالاً بأنها مأساوية جداً ولا تسر أحداً, وقال: إن المنطقة معزولة تماماً عن الولاية بسبب وضعها الجغرافي ووعورة طرقها حيث لا يصلها المسئولون الكبار في الدولة للوقوف على حالها والعطف عليها وقال: تعامل الشريك على أنها منطقة جباية وبقرة حلوب محكومة بالواجبات فقط, وقال إن المنطقة تعاني من تردي الخدمات وخاصة الزراعة, فالحكومة لا تقدم أي دعم للمزارعين، من آليات لإزالة الطمي الذي تسبب في شح مياه الري في القنوات, بالإضافة لمشاكل الإعسار بالنسبة للمزارعين, الذين عجزوا عن سداد مديونياتهم للبنك مما ادى لتوقف 80% من خدمات البنك للمزارعين, وأضاف قائلا: الآن هناك أكثر من جنينة برتقال تعاني من العطش ومهددة بالتلف لجفاف مجرى النيل بسبب الهدامات في مجرى النيل, ويجب على الحكومة توفير كراكات لفتح مجرى النيل..
وفي شفخانة الشريك والتي تتكون من غرفة متصدعة, (تسمى زورا وبهتانا بالمركز الصحي), بجانب غرفة معمل بدون معدات للفحص والتحاليل, وغرفة تنويم للمرضى آيلة للسقوط وهي في حاجة ماسة للعناية المكثفة.. التقيت بالممرضة/ زينب مصطفى التي ذكرت بأن عمل المركز ينحصر فقط في تطعيم الأطفال والتغذية, وأنه لا يوجد طبيب بالمركز, بل مساعد أخصائي ينحصر عمله فقط في علاج الملاريا والالتهابات, ويجد صعوبة في تشخيص الأمراض لعدم وجود المعمل, وقالت إن سكان 15 قرية يترددون على هذا المركز يوميا, بمعدل 20 مريضاً في المتوسط، ويظلون وقوفاً على أرجلهم بالساعات الطويلة لعدم توفر مكان للاستقبال والجلوس لحين مقابلة المساعد الطبي, وفي أيام الأحد والخميس (أيام السوق), يكون الضغط كبيرا على المركز, مع العلم بأنه لا توجد دورات مياه بالمركز..
غادرتهم والحسرة تملأ قلبي على وطن يقتله الشقاء، والنعيم فوق ظهوره محمول, واعدا بأن اعكس مأساتهم عبر صفحات "التيار" لعل وعسى أن تجد من يرق قلبه, من منظمات مجتمع مدني وشركات كبرى لمد يد العون والمساعدة في إكمال تشييد مباني مستشفى الشريك الذي وضع له حجر الأساس فقط, منذ العام 1988..
توجهت ومرافقي إلى (المشرع) البنطون لزيارة قرى الرباطاب في الضفة الغربية لنهر النيل, وعند المشرع وجدت عددا كبيرا من النساء والمزارعين في انتظار البنطون ليقلهم إلى الضفة الأخرى بعد أن تبضعوا من سوق الشريك, وهم محملون بالأغراض, وعندما طال انتظارهم لقدوم البنطون الذي يقبع بالضفة الأخرى في انتظار حمولته من العربات, (البنطون لا يتحرك إلا بحمولة عربة أو أكثر ولا يلقي بالاً للركاب, إذ يركبون بدون مقابل مادي) والتي طالت, توكلت النسوة وصعدن على ظهر لنش بدائي صغير, كاد أن ينكفيء في منتصف النيل لولا لطف الله, نسبة للحمولة الزائدة,
ولكن المزارعين ظلوا في انتظار البنطون وأنا معهم, لأكثر من ساعة, وذلك لأنهم يحملون كميات كبيرة من خراطيم المياه ذات السعات العريضة والأطوال البعيدة لسحب مياه النيل التي انحسرت بفعل الهدام, وأصبحت زراعتهم مهددة بالتلف, وبعد طول انتظار تحت أشعة الشمس اللاهبة وطنين حشرات (الكنيب) المزعجة والتي تنتشر بكثافة في فصل الشتاء نهارا, وتدخل في العين والأذن مباشرة, مسببة مرض الفلاريا, والبعوض ليلا مسببا لمرض الملاريا, كما أخبرني المزارعون بالمشرع.. وبعد طول انتظار وصل البنطون وهو يئن تحت وطأة حمولته, وبدا في حلة يرثى لها, فجسمه صديء وسقفه متصدع.. سألت الريس عن عمر البنطون, فأجابني بأنه قديم جدا وكان يعمل بالدامر لزمن طويل, وهو الآن يعمل بماكينة واحدة, ولو تعطلت لوقف حال أهل الضفة الغربية تماما, وذكر أن البنطون به عدد من الثقوب الصغيرة مما حدا بهم للاستعانة بطلمبة لسحب المياه باستمرار حتى لا يغرق, كما غرق البنطون الذي قبله منذ تسع سنوات بسبب الطمي وانحسار النيل..
عبرنا إلى الضفة الغربية, وعند قرية الزومة الواقعة بالضفة الغربية، بدأت صور المعاناة تتلاحق أمامنا، فمن المرأة التي تحمل جرادل بحثا عن الماء الصالح للشرب، إلى المرأة الحاملة للحطب على رأسها ويتبعها أطفالها الذين يجُرُّون جذوع الأشجار والحطب لغرض استعمالها في طهي الطعام، إلى شيوخ جالسين تحت أشجار المُشرع..
جلست إليهم لمعرفة تفاصيل ويوميات أهالي المنطقة, وأخبرني أحدهم بأن أهالي المنطقة يشكون من الوضع الصحي المتدني بمنطقتهم المنكوبة بالأوبئة والأمراض المستوطنة مثل الملاريا التي تحصد سنوياً عشرات الأرواح وأمراض الكُلى والفشل الكلوي وفقر الدم وغيرها من الأمراض، ويعزي هذا الأمر إلى عدم صلاحية مياه الشرب للاستخدام الآدمي، إضافة لعدم وجود الرعاية الصحية في المنطقة والتي تسببت في وفاة الكثير من الأطفال والنساء خاصة الحوامل وإصابة نسبة كبيرة بأمراض عديدة مثل فقر الدم والنزيف الحاد وأمراض الملاريا وضغط الدم والحالات النفسية الصعبة والديدان وغيرها. ويعود ذلك أيضاً لسوء التغذية والفقر والجهل، وقال آخر إن الخدمات الصحية في الرباطاب تكاد تكون معدومة وإن وجدت في مدينة الشريك فهي عبارة عن خدمات بسيطة جداً لا تتجاوز الإسعافات الأولية في أحسن حالتها ومعظم المرضى وخاصة من النساء والأطفال يقضون نحبهم نتيجة انعدام الخدمات الصحية.. واصلنا جولتنا في اتجاه الشمال صوب أبو حمد على ناحية الضفة الغربية للنيل, قد كشفت الجولة عن سوء الطرق ووعورتها حيث لا تزال أغلب القرى تعيش عزلة حقيقية ولا تتوفر المواصلات بين القرى, ناهيك عن الوصول إلى مدينة..
ونواصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق