اليوم التالي
قيل إن أوّل قائد سيارة صنعها الإنسان، كان يأمر شخصاً من معارفه بأن يتقدمه مسيرة ساعتين أو أكثر، يحمل ذلك الشخص علماً أحمر، وينادي على الناس ويوجههم بالابتعاد عن الطريق، حفاظاً على أرواحهم؛ لأن سيارة ما تتحرك حركة ذاتية من غير حصان، ستمر من هنا بعد ساعات. الآن، بات البشر في حاجة ماسة إلى إعادة هذا الإنسان صاحب العلم الأحمر، إذ لا يمكن السكوت على حوادث الطريق التي حصدت فيها السيارات ملايين الأرواح، بطرائق عديدة مختلفة، أكثرها شيوعاً تصادم سيارتين تسيران في اتجاهين متعاكسين، مثلما حدث ظهر أمس (الإثنين) بالقرب من أم كشمة في طريق القضارف، وأقلها، سقوط الضحية من على متن السيارة. وتشير الإحصائيات الرسمية في البلاد إلى تزايد حوادث المرور بنسبة (143%) وتوقعت أن تقفز النسبة إلى (193 %) في العام 2018م. ويلاحظ الازدياد الفظ في عدد السيارات في العاصمة الخرطوم والبلاد بعامة، تبعاً لحالة الغنى السطحي الذي أصاب عدداً من الناس بسبب عائدات البترول. وبالمقابل، تناقص عدد ركاب السكة الحديد، ولا شك في تفضيل الركاب للنقل والتنقل البري على النقل بالسكة الحديد رغم ضمانات السلامة فيها، إذ أن المركبات الحديثة توفر قدراً من الراحة أكثر مما توفره السكة الحديد، وبسرعة أكبر، وبوتيرة أعلى، لكنها في الوقت نفسه تعرض حياة المسافرين إلى الموت. وكمؤشر لازدياد النقل البري عبر الأسفلت فقد كان عدد السيارات خلال الـ30 سنة الماضية (148) ألف سيارة في عام (1984) ثم (380) ألفا عام (2003)، ثم إلى (400) ألف سيارة عام (2004) و(460) ألفا عام (2005)، ثم قفز الرقم قفزات عالية حتى العام 2012 ووصل إلى 14 مليون مركبة، تقول السلطات إنها تتحرك داخل شوارع ولاية الخرطوم فقط، تضاف إليها (3500) مركبة تأتي إلى الخرطوم من الولايات والأرياف القريبة، ويأتي على متنها نحو3 ملايين شخص.
ففي طريق الأسفلت إلى القضارف، لقي 17 شخصاً مصرعهم بصورة بشعة، في انقلاب بص سفري بسبب السرعة الزائدة، وكان الضحايا ضمن 45 شخصاً آخرين كانوا يستغلون البص في رحلة من الخرطوم إلى مدينة حلفا الجديدة، واضطرت بشاعة الحادث إلى الاستعانة برافعات تابعة للجيش لانتشال الجثث التي تكوم عليها الحديد، وبقيت أكثر من 20 جثة لم يتعرف على هوية أصحابها. وتشير وزارة الداخلية إلى مصرع نحو ألفي شخص سنوياً بسبب حوادث السير، وتؤكد أن جملة الوفيات الناتجة عن الحوادث المرورية في 6 أشهر من العام الماضي بلغت 775 حالة وفاة، صعدت فيها الأرواح على الأسفلت الأسود.
طلباً للإنصاف، فقد بدأ في النصف الأول من القرن العشرين بناء الطرق المسفلتة في الخرطوم ومدن قليلة أخرى، وكان الغرض منه هو مواكبة السرعة التي تتطلبها حياة الناس، بينما ظلت الطرق في خارج المدن والمراكز طرقاً ترابية، أو رملية، أو مغطاة بالحصى، وهي في غالبها من صنع آثار خطى البشر والحيوانات على الأرض، كما يذهب إلى ذلك البروفيسور مصطفى محمد خوجلي في مقالة (عصر تشييد الطرق البرية والجسور، الصادرة بالإنجليزية)، ولم تتسبب الطرق المسفلتة حتى ذلك الوقت في وفيات مزعجة تذكر.
عند إدخال اللواري وازدياد عددها عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ نقاش جدي حول بناء الطرق المسفلتة على نطاق واسع، وطلبت الحكومة رسمياً في عام 1957م من الأمم المتحدة المشورة الفنية في الأمر. وأسفرت تلك المشورة عن تقرير اقترح تشييد 3100 ميل من الطرق القومية والإقليمية. لكن التقرير لم يسفر عن نتيجة عملية، بسبب الضغوط التي مارستها مصلحة السكة الحديد، وللمصاعب الاقتصادية التي جابهتها الحكومة في الفترة من 1958م إلى 1961م. لكن الآن توجد بالبلاد (8) آلاف كيلومتر من الطرق المعبدة، وتشتكي وزارة النقل والطرق والجسور من شح الميزانيات المرصودة لتلك الطرق، وقال الوزير أحمد بابكر نهار للبرلمان مؤخراً إن (800) كيلومتر من جملة الطرق تحتاج لصيانة سنوية، بما قيمته 16 مليار جنيه. وتترافق مع عدم صيانتها مشكلة أخرى، تتمثل في ضيق مساراتها، ما يتسبب في اصطدام السيارات في حالة وقوع أقلّ الأخطاء، وبالطبع فإن هذا النوع من الحوادث لا يمكن تجنبه عبر كوابح السيارة التي اخترعها الإنسان لاحقاً، مهما كانت قدرة وكفاءة الكوابح عالية في العمل، ولا يمكن تداركها بفنيات مسند الرأس، أو تكنولوجيا الوسادات الهوائية، وحزام السلامة. وبالمقابل، لا يمكن أن ينجوَ أحد من هذه الحوادث بسهولة، والأكثر تأكيداً هو أن خسارتها مما لا تستطيع شركات التأمينات تعويضه، مهما كانت سخية، إذ تُلقي الإصابات الناجمة عن حوادث المرور عبئاً كارثياً على الأسر المتضررة التي ترهقها التكاليف الطبية، وتكاليف التأهيل، وتكاليف الجنازة، وغيرها من المصائب، مثل فقدان دخل الضحية... والآن تمتلئ البيوت بأشخاص فقدوا أطرافهم في حوادث السير، وأصبحوا كما لو أنهم عالة على الناس، مثلما تمتلئ أيضاً قلوب الأهل والأصدقاء والمعارف بالحسرة والألم، على أناس ماتوا دهساً بإطارات السيارات أو تقطيعاً بحديدها المتين. وللأسف، لا يستطيع أحد أن يوجه اللوم أو الإرشاد لملايين السائقين الذين ارتكبوا الأخطاء، لأنهم، بكل أسف، ماتوا، لكن في مقدورنا جميعاً أن نفعل ذلك مع الأحياء، ولو بإعادتهم إلى دنيا الرجل صاحب العلم الأحمر.
ففي طريق الأسفلت إلى القضارف، لقي 17 شخصاً مصرعهم بصورة بشعة، في انقلاب بص سفري بسبب السرعة الزائدة، وكان الضحايا ضمن 45 شخصاً آخرين كانوا يستغلون البص في رحلة من الخرطوم إلى مدينة حلفا الجديدة، واضطرت بشاعة الحادث إلى الاستعانة برافعات تابعة للجيش لانتشال الجثث التي تكوم عليها الحديد، وبقيت أكثر من 20 جثة لم يتعرف على هوية أصحابها. وتشير وزارة الداخلية إلى مصرع نحو ألفي شخص سنوياً بسبب حوادث السير، وتؤكد أن جملة الوفيات الناتجة عن الحوادث المرورية في 6 أشهر من العام الماضي بلغت 775 حالة وفاة، صعدت فيها الأرواح على الأسفلت الأسود.
طلباً للإنصاف، فقد بدأ في النصف الأول من القرن العشرين بناء الطرق المسفلتة في الخرطوم ومدن قليلة أخرى، وكان الغرض منه هو مواكبة السرعة التي تتطلبها حياة الناس، بينما ظلت الطرق في خارج المدن والمراكز طرقاً ترابية، أو رملية، أو مغطاة بالحصى، وهي في غالبها من صنع آثار خطى البشر والحيوانات على الأرض، كما يذهب إلى ذلك البروفيسور مصطفى محمد خوجلي في مقالة (عصر تشييد الطرق البرية والجسور، الصادرة بالإنجليزية)، ولم تتسبب الطرق المسفلتة حتى ذلك الوقت في وفيات مزعجة تذكر.
عند إدخال اللواري وازدياد عددها عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأ نقاش جدي حول بناء الطرق المسفلتة على نطاق واسع، وطلبت الحكومة رسمياً في عام 1957م من الأمم المتحدة المشورة الفنية في الأمر. وأسفرت تلك المشورة عن تقرير اقترح تشييد 3100 ميل من الطرق القومية والإقليمية. لكن التقرير لم يسفر عن نتيجة عملية، بسبب الضغوط التي مارستها مصلحة السكة الحديد، وللمصاعب الاقتصادية التي جابهتها الحكومة في الفترة من 1958م إلى 1961م. لكن الآن توجد بالبلاد (8) آلاف كيلومتر من الطرق المعبدة، وتشتكي وزارة النقل والطرق والجسور من شح الميزانيات المرصودة لتلك الطرق، وقال الوزير أحمد بابكر نهار للبرلمان مؤخراً إن (800) كيلومتر من جملة الطرق تحتاج لصيانة سنوية، بما قيمته 16 مليار جنيه. وتترافق مع عدم صيانتها مشكلة أخرى، تتمثل في ضيق مساراتها، ما يتسبب في اصطدام السيارات في حالة وقوع أقلّ الأخطاء، وبالطبع فإن هذا النوع من الحوادث لا يمكن تجنبه عبر كوابح السيارة التي اخترعها الإنسان لاحقاً، مهما كانت قدرة وكفاءة الكوابح عالية في العمل، ولا يمكن تداركها بفنيات مسند الرأس، أو تكنولوجيا الوسادات الهوائية، وحزام السلامة. وبالمقابل، لا يمكن أن ينجوَ أحد من هذه الحوادث بسهولة، والأكثر تأكيداً هو أن خسارتها مما لا تستطيع شركات التأمينات تعويضه، مهما كانت سخية، إذ تُلقي الإصابات الناجمة عن حوادث المرور عبئاً كارثياً على الأسر المتضررة التي ترهقها التكاليف الطبية، وتكاليف التأهيل، وتكاليف الجنازة، وغيرها من المصائب، مثل فقدان دخل الضحية... والآن تمتلئ البيوت بأشخاص فقدوا أطرافهم في حوادث السير، وأصبحوا كما لو أنهم عالة على الناس، مثلما تمتلئ أيضاً قلوب الأهل والأصدقاء والمعارف بالحسرة والألم، على أناس ماتوا دهساً بإطارات السيارات أو تقطيعاً بحديدها المتين. وللأسف، لا يستطيع أحد أن يوجه اللوم أو الإرشاد لملايين السائقين الذين ارتكبوا الأخطاء، لأنهم، بكل أسف، ماتوا، لكن في مقدورنا جميعاً أن نفعل ذلك مع الأحياء، ولو بإعادتهم إلى دنيا الرجل صاحب العلم الأحمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق