"هام ذاك النهر يستلم حسناً/ فإذا مرة ببلادي فتثَّنى/ طرب النيل لدينا وتغنَّى". ومن أبرز المعالم السياحية في السودان هذا النيل الذي يجري من تحتنا، فعلى ضفتيه نشأت أقدم حضارات العالم، وهو الوحيد (في العالم) الذي يجري من الجنوب إلى الشمال على عكس كافة أنهار (الدنيا)، علاوة على أن مياه النيل الأزرق والأبيض لا تختلط مباشرة عندما يتعانقان في الملتقى عند (المقرن) إلا بعد عدة كليومترات، وهذا المشهد الرائع يسبي العقول وتتجلى فيه عظمة الخالق وجمال وروعة الطبيعة.
فتنة وافتتان
مشهد بهر الزوار والسياح وسحر الشعراء، وها هو الراحل (صلاح عبد الصبور) حين فُتن وافتتن بعناق النهرين في المقرن عند الغروب، أنشد "ولا هذي ولا تلك/ ولا الدنيا بما فيها/ تساوي ملتقى النيلين في الخرطوم يا سمراء"، والقصيدة طويلة تغنى بها الفنان سيد خليفة.
استضافت إذاعة ركن السودان من القاهرة آنذاك الكاتب الصحفي المصري (عبد الستار الطويل) وبسؤاله عن ما إذا كان يستمع إلى الأغاني السودانية، فأجاب: نعم أسمعها في بعض الأحيان وأتمتع بروعة وحلاوة الكلمة ولكن أكثر ما يعجبني أغنية يرددها أحد الفانين السودانيين (حسن عطية) يقول فيها: "هل تدري يا نعسان أنا طرفي ساهر/ أهوى القمر والنيل أهوى الأزاهر". وأضاف: هذه اللوحة الشعرية لم تبرح خيالي وأنا أجسمها فأرى فيها روعة النيل بالليل والقمر ساطع عليه بين الخمائل والزهور.
الليل نهار العاشقين
للنيل سحر خاص عند الأمسيات، فتحس أن هنالك صلة ما بينك وبينه، فيقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم: "وتلقى فيها النيل بيلمع في الظلام/ زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام"، ويقول الشاعر إدريس جماع: "قوم يا ملاك والدنيا ليل/ نتناجى على الشاطئ الجميل/ والليل نهار العاشقين".
وكنت أشرت في مقال سابق يتعلق بمؤتمر القمة العربية الذي عُقد في الخرطوم عام 1967م، كيف أن الملك فيصل قد بُهر بروعة وجمال وملتقى النيلين في الصباح الباكر قبل شروق الشمس، وهو واقف يتأمل ذلك المشهد الرائع، وبعد مدة بدأ الذهاب إلى مقر إقامته في الفندق المطل على النيل راجلاً دون أن يركب السيارة رغم إلحاح الحرس الذي يرافقه، فقال للحرس "دعوني أبتعد عن هذا المكان الرائع تدريجياً".
حيثيات الجمال
الرئيس الجزائري الراحل (هواري بو مدين) عندما وقف في نفس المكان متأملاً ملتقى النيلين، قال إنه أجمل ما رأى في حياته، لكن تعالوا معنا لنستمع إلى ما قاله الألماني (روجر كول) قال لي حين التقيت به وهو جالس على كتبه يتأمل جريان المياه في هدوء، "هل تعلم أنني زرت كثيراً من الدول الأوروبية والآسيوية وبعض دول أفريقيا، فلم أر أجمل من نهر النيل"، فقلت: ما الشيء الذي أعجبك فيه؟ فرد بهدوء، هما شيئان: الأول أن الشجيرات التي على ضفتيه طبيعية لم تمسها أيدي البشر "كلامه ده ما عجبني لأنني لم أر سوى شجيرات المسكيت والسيسبان والعُشر، وكنت أمنّي نفسي بروية أشجار المانجو والنخيل والعرديب على ضفاف النيل". والثاني أن هذا النهر يجري طول أيام السنة بلا توقف بينما الأنهار عندنا في أوروبا تتجمد أيام الشتاء فتموت فيها الحياة. وهنا تذكرت قصيدة الشاعر ميخائيل نعيمة، وهو يخاطب النهر المتجمد: "بالأمس كنـتَ إذا أتيتُكَ باكيـاً سلَّيْتَنـي / واليومَ صـرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكـاً أبكيتنـي/ بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّـدِي وتوجُّعِـي تبكي ، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي / ما هذه الأكفانُ ؟ أم هذي قيـودٌ من جليـد / قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْـكَ بها يدُ البـرْدِ الشديـد؟".
أساطير الأولين
فيا أيها المقرن الحزين حجبوك عنا بحديقة الأطفال وحرموا الكثيرين من روعة وجمال محياك الحبيب، يا من كنت قبلة الزوار وملهم الشعراء والحامدين والمسبحين بحمد الله عندما يروا هذا المشهد الرائع، وقالوا فيك ما لم يقولونه في نهر آخر.
ماذا أقول لأحفادي وهم لم يروك أبداً ولا يعلمون شيئاً عنك سوى أن أروى لهم قصصاً أشبه بقصص التاريخ وأساطير الأولين. وأين نحن من حديقة الحيوان، حيث كان يؤمها الزوار والسياح لمشاهدة حيوانات المناطق الحارة، ويقفون فترة طويلة باحترام وإعجاب أمام ملك الحيوانات (الأسد) ثم يعرجون إلى النمر صاحب أجمل الثياب، فيمني الزائر نفسه ولو بقطعة منه.
غابة السنط
وهنالك قريباً من المقرن ترقد غابت السنط على ضفة النيل الأبيض كاجمل غابة طبيعية مهملة تماماً ومع ذلك فيضان النيل الزوار من الدخول إليها لعدة أشهر دون أن تقوم الجهات المختصة بعمل حاجز يصد عنها تلك المياه. وهذه بعض الأماكن السياحية في الخرطوم التي كان يسميها الأجانب في الماضي زهرة أفريقيا.، فيا إدارة السياحة أُنهضي وانقذي السياحة في الخرطوم وردي إليها جمالها وروعتها قبل أن تموت وتقبر مرة وإلى الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق