جعفر عباس
تستطيع اليوم السفر من الخرطوم إلى سنار في أربع ساعات بالسيارة، ومن سنار إلى وطني الثاني داخل السودان مدينة كوستي، في نحو ساعتين لأن هذه المدن مرتبطة بطرق مسفلتة، وهي سفلتة زي الزفت لأنها في ما يبدو تمت بزفت «قار» مغشوش، ولكنها خير من الشوارع الترابية التي كانت تضطرنا إلى اللجوء إلى القطارات، التي تتميز بالبطء الشديد مقارنة بالسيارات، رغم أنها في أيام مجدها التي شهدناها كانت منضبطة من حيث المواعيد، ولكن الوقوف المتكرر في المحطات يجعلها تستغرق وقتا طويلا في الرحلات، ورغم أن سنار التي تم تعييني مدرسا للغة الإنجليزية في مدرستها الثانوية، تقع تقريبا في نصف المسافة بين مدينتي كوستي والخرطوم، فإنني سافرت أولا إلى الخرطوم لأروي شوقي إليها، وألقي عليها نظرة الوداع المؤقت، ومن هناك توجهت بالقطار المتجه إلى كوستي ونزلت في محطة سنار، أي أنني قطعت ثلاثة أضعاف المسافة التي كان ينبغي أن أقطعها كي أصل إلى سنار.
وسنار تقع في منطقة من أخصب أراضي العالم، ولو زرعت في أرضها قطعة ألمنيوم لأزهرت وأنتجت يورانيوم، ومن ثم فقد كانت محاصرة بالخضرة، ولكن لماذا أقول «كانت»، وهي لا تزال في مكانها وأرضها هي، هي، سوداء ذات رحم ولود؟ أقول «كانت» لأن حكومتنا نسيت أننا شعب من الزراع والرعاة، بعد أن تمكنت من تصدير شوية بترول، وذهب جنوب السودان وصار دولة مستقلة وذهب معه شوية البترول، فتذكرت الحكومة خزان سنار: هم الإنجليز عملوه ليه؟ أكيد في سرّ وراء إنشاء الخزان في عشرينيات القرن الماضي، فكان الجواب عند واحد ممن لم تصب أبخرة البترول عقولهم بغشاوة: فاكرين شي اسمه مشروع الجزيرة الزراعي اللي درسنا في المدارس أنه أكبر مزرعة مروية فيضيا في العالم؟ صاحوا: عليك نور.. أيوه.. فعلا الخزان كان لريّ مزارع مشروع الجزيرة الذي درسنا أنه العمود الفقري للاقتصاد السوداني، بما ينتجه من قطن، وهكذا تم تكوين اللجان والهيئات والهياكل التنظيمية لإنعاش مشروع الجزيرة، وخاصة أن خزان سنار كان ما يزال يقوم بواجبه خير قيام، من حيث حجز المياه وتصريفها بحسب الطلب، ولكن كانت المفاجأة: المشروع الذي كان العمود الفقري للاقتصاد السوداني مصاب بكسور وتكلسات في عموده الفقري، فقد اتضح ان الترع الضخمة التي كانت توصل الماء المتدفق من الخزان إلى المزارع عبر مئات الكيلومترات، مصابة بانسداد في «الحالب» وتعاني من حصى المثانة وتضخم البروستات حتى باتت عاجزة عن تصريف المياه إلا بالقسطرة، وباستخدام القسطرة تم الإجهاز على خصوبة الأرض بمحاصيل معدلة وراثيا (عندما يقال لك إن شيئا ما معدل وراثيا، ألا يعني ذلك أنه كان يعاني من علل أو خلل وراثي أو أنه «قليل أصل» وبدون حسب أو نسب؟) ومن بينها بذور عباد شمس غيرت دينها الزرادشتي، وصارت تعبد الأرض، ومن ثم رفضت أن تنبت، وقمح تركي تنكر لأصله وصار «تايواني»، وقطن تم التلاعب به في مختبرات غربية فاستنكر نقله إلى إفريقيا، وخاصة أنه كان يغار من قطن السودان الطويل التيلة الذي كان بلا نظير في العالم، وخاصة أن عالما زراعيا سودانيا استنبط نوعا من القطن مقاوما للأمراض والآفات يحمل اسم «بركات»، وهي المدينة التي كان مشروع الجزيرة يدار منها وكانت تتبع لها ما كان المزارعون يسمونه سِيد فارِم، في تحوير لعبارة seed farm التي تعني مرزعة البذور وكان علماء السودان يجرون التجارب على مختلف أنواع بذور المحاصيل المراد زراعتها في المشروع، ويختارون أفضلها لضمان عائد جيد للمزارع وخزينة الدولة.
وأن تجد سنار اليوم التي كانت يوما ما عاصمة لدولة ذات شأن وهيلمان وقد تحولت إلى خرابة فلا غرابة، وأحمد الله أنني عشت في سنار في سنوات عزها ودرست فيها طلابا عاشوا ذلك العزّ وتحلوا بعزة النفس.
جعفر عباس
jafabbas19@gmail.com
تستطيع اليوم السفر من الخرطوم إلى سنار في أربع ساعات بالسيارة، ومن سنار إلى وطني الثاني داخل السودان مدينة كوستي، في نحو ساعتين لأن هذه المدن مرتبطة بطرق مسفلتة، وهي سفلتة زي الزفت لأنها في ما يبدو تمت بزفت «قار» مغشوش، ولكنها خير من الشوارع الترابية التي كانت تضطرنا إلى اللجوء إلى القطارات، التي تتميز بالبطء الشديد مقارنة بالسيارات، رغم أنها في أيام مجدها التي شهدناها كانت منضبطة من حيث المواعيد، ولكن الوقوف المتكرر في المحطات يجعلها تستغرق وقتا طويلا في الرحلات، ورغم أن سنار التي تم تعييني مدرسا للغة الإنجليزية في مدرستها الثانوية، تقع تقريبا في نصف المسافة بين مدينتي كوستي والخرطوم، فإنني سافرت أولا إلى الخرطوم لأروي شوقي إليها، وألقي عليها نظرة الوداع المؤقت، ومن هناك توجهت بالقطار المتجه إلى كوستي ونزلت في محطة سنار، أي أنني قطعت ثلاثة أضعاف المسافة التي كان ينبغي أن أقطعها كي أصل إلى سنار.
وسنار تقع في منطقة من أخصب أراضي العالم، ولو زرعت في أرضها قطعة ألمنيوم لأزهرت وأنتجت يورانيوم، ومن ثم فقد كانت محاصرة بالخضرة، ولكن لماذا أقول «كانت»، وهي لا تزال في مكانها وأرضها هي، هي، سوداء ذات رحم ولود؟ أقول «كانت» لأن حكومتنا نسيت أننا شعب من الزراع والرعاة، بعد أن تمكنت من تصدير شوية بترول، وذهب جنوب السودان وصار دولة مستقلة وذهب معه شوية البترول، فتذكرت الحكومة خزان سنار: هم الإنجليز عملوه ليه؟ أكيد في سرّ وراء إنشاء الخزان في عشرينيات القرن الماضي، فكان الجواب عند واحد ممن لم تصب أبخرة البترول عقولهم بغشاوة: فاكرين شي اسمه مشروع الجزيرة الزراعي اللي درسنا في المدارس أنه أكبر مزرعة مروية فيضيا في العالم؟ صاحوا: عليك نور.. أيوه.. فعلا الخزان كان لريّ مزارع مشروع الجزيرة الذي درسنا أنه العمود الفقري للاقتصاد السوداني، بما ينتجه من قطن، وهكذا تم تكوين اللجان والهيئات والهياكل التنظيمية لإنعاش مشروع الجزيرة، وخاصة أن خزان سنار كان ما يزال يقوم بواجبه خير قيام، من حيث حجز المياه وتصريفها بحسب الطلب، ولكن كانت المفاجأة: المشروع الذي كان العمود الفقري للاقتصاد السوداني مصاب بكسور وتكلسات في عموده الفقري، فقد اتضح ان الترع الضخمة التي كانت توصل الماء المتدفق من الخزان إلى المزارع عبر مئات الكيلومترات، مصابة بانسداد في «الحالب» وتعاني من حصى المثانة وتضخم البروستات حتى باتت عاجزة عن تصريف المياه إلا بالقسطرة، وباستخدام القسطرة تم الإجهاز على خصوبة الأرض بمحاصيل معدلة وراثيا (عندما يقال لك إن شيئا ما معدل وراثيا، ألا يعني ذلك أنه كان يعاني من علل أو خلل وراثي أو أنه «قليل أصل» وبدون حسب أو نسب؟) ومن بينها بذور عباد شمس غيرت دينها الزرادشتي، وصارت تعبد الأرض، ومن ثم رفضت أن تنبت، وقمح تركي تنكر لأصله وصار «تايواني»، وقطن تم التلاعب به في مختبرات غربية فاستنكر نقله إلى إفريقيا، وخاصة أنه كان يغار من قطن السودان الطويل التيلة الذي كان بلا نظير في العالم، وخاصة أن عالما زراعيا سودانيا استنبط نوعا من القطن مقاوما للأمراض والآفات يحمل اسم «بركات»، وهي المدينة التي كان مشروع الجزيرة يدار منها وكانت تتبع لها ما كان المزارعون يسمونه سِيد فارِم، في تحوير لعبارة seed farm التي تعني مرزعة البذور وكان علماء السودان يجرون التجارب على مختلف أنواع بذور المحاصيل المراد زراعتها في المشروع، ويختارون أفضلها لضمان عائد جيد للمزارع وخزينة الدولة.
وأن تجد سنار اليوم التي كانت يوما ما عاصمة لدولة ذات شأن وهيلمان وقد تحولت إلى خرابة فلا غرابة، وأحمد الله أنني عشت في سنار في سنوات عزها ودرست فيها طلابا عاشوا ذلك العزّ وتحلوا بعزة النفس.
جعفر عباس
jafabbas19@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق