تحقيق وتصوير:عباس عزت
فى طريقى الى ولاية كسلا عبر طريق مدنى-القضارف وعند مدينة الشبارقة الريفية استرعى انتباهى وقوف سيدة تمسك بيد طفل على حافة الطريق وهى تؤشر بطريقة هستيرية طالبة منى التوقف,فما كان منى الا ان ضغطت على دواسة الفرامل وتوقفت بمحاذاتها, وقبل أن اسألها عن وجهتها وسبب انزعاجها كانت قد دلفت الى داخل السيارة طالبة منى ان اقود بسرعة حتى لا تفوت مواعيد حصتها بالمدرسة التى تعمل بها بمنطقة الفاو..
رحبت بها وبابنها ذو الخمس سنوات والتى اخبرتنى فيما بعد بأنه مريض بالملاريا والتايفويد بسبب المياه الملوثة التى يشربونها بالقرية(19) محلية الفاو حيث تقع المدرسة..سألتها: وأين تقع القرية؟ اجابتنى قائلة:انها ليست بعيدة ولكن على ان اسرع حتى تلحق بمواعيدها.. طلبت منها ان تهدأ قليلا و قلت لها ان فى العجلة الندامة..
وبعد مسيرة نصف ساعة طلبت منى شاكرة التوقف عند لوحة بها سهم يشير باتجاه الشرق الى القرية (19), فما كان منى الا ان ادرت عجلة القيادة باتجاه الشرق قاصدا القرية..وعندها زاد انزعاجها وظهرت على وجهها علامات الخوف..عرفتها بنفسى وطبيعة عملى ..اطمأنت قليلا وذهب خوفها تدريجيا عندما طلبت منها ان تأخذنى الى المدرسة حتى أرى ان كان هناك شىء يمكننى ان اقدمه للمدرسة والتى كنت اعلم يقينا بأنها فى حال بائس أسوة بمدارسنا الريفية..رحبت بالفكرة وانطلقنا تجاه الشرق..
سلكنا طريقاً ترابياً وعراً بعض الشيء يبلغ طوله ثلاث كيلومترات وعبرنا ترعة مشروع الرهد الزراعى عبر كبرى ضيق جدا, ومررنا عبر طرق ملتوية وسط القرية التى يقطنها حوالى 8 الف نسمة .. لكن قصر المسافة هوّن علينا وعثاء السفر..وبعد عشر دقائق من السير وسط الحى الشرقى للقرية طلبت منى مرافقتى ان اتوقف امام زريبة من الشوك تضم مجموعة من الرواكيب المهترئة قائلة: (خلاص وصلنا يا استاذ). ثم نزلت من العربة ودخلت برفقة ابنها المريض عبر باب مصنوع من الشوك ايضا لمنع الاغنام من الدخول الى المدرسة واكل ما تبقى من قش يغطى عورة الرواكيب كما قالت..
تبعتها الى داخل الزريبة التى تسمى زورا وبهتانا مدرسة وهالنى ما رأيت من رواكيب مكشوفة الجنبات مهترئة السقوفات تجلس بداخلها فتيات صغيرات السن ’ بعضهن على بنابر وكراسى بلاستيكية احضرنها من منازلهن’ وبقية التلميذات يجلسن على الارض ومعلمات يجلسن على ترابيز تآكلت اطرافها بفعل عامل الزمن وسبورات بالية مربوطة على الرواكيب بالحبال’ تناولت كاميراى التى لا تفارقنى ابدا وبدأت فى توثيق المشاهد للحقيقة والتاريخ لثورة التعليم فى بلادى’ انها (ثورة القش والرواكيب) وبعد لحظات انطلق جرس المدرسة معلنا حصة الفطور..
تدافعت الفتيات عبر الباب الشوكى وهن يحملن بنابرهن هربا من لهيب الشمس الحارقة التى الهبت رؤوسهن اثناء الدرس الذى اعتقد انهن لم يفهمن شيئا مما قالتة المعلمة فى ظل هذه الظروف الطاردة.مهرولات الى البيوت طلبا لماء الشرب وسد رمقهن من الجوع.
توجهت نحو غرفة مكتوب عليها مكتب المدير بها ثلاثة ترابيز قديمة وعدد اربعة كراسى متهالكة وتضم عدد ثمانية معلمات زائدا معلم واحد بالاضافة لمدير المدرسة,كلهم يتكدسون فى غرفة واحدة لاتزيد مساحتها 16 متر مربع ويجلسون بالتناوب. تخيلوا.., اى بيئة مدرسية هذه؟!! وكيف يستطيع هؤلاء المعلمين من اداء واجبهم فى ظل هذه الظروف القاسية؟
ويقول الاستاذ بشير عبدالله محمد عبدالله مدير السلام بنات لمرحلة الاساس:انهم يعانون الأمرين فى سبيل أداء واجبهم تجاه تعليم ابناء وبنات المنطقة وانهم يعملون فى ظروف قاسية بسبب بيئة المدرسة التى تتكون من سبع رواكيب متهالكة وان عدم وجود سور بالمدرسة ادى لدخول الاغنام والابقار الجائعة والتهامها للرواكيب وتركها بهذا الشكل البائس وقال ان هناك نقص كامل فى الاساسات والكتاب المدرسى والسبورات والوسائل التعليمية الامر الذى يجعلنا نعانى أشد المعاناة فى توصيل المعلومة للتلميذات وأضاف قائلا: الأدهى والأمر عدم وجود مياه للشرب ولا مراحيض..
وبالنسبة لمكان قضاء حاجتهم ,اجابنى:فى الخلاء الواسع وفى ابعد ما تيسر حيث لا يرى الآخرون, أما الماء فتلك مأساة أخرى.. انهم يعانون كثيرا حيث يتوجب عليهم حمل جرادلهم لمسافة بعيدة حتى الوصول لصهريج الماء الذي يوجد في مدخل القرية ..وقال لي إن بيئة المدرسة طاردة للمعلمين والتلاميذ..وقلت لنفسى كيف يستوعب هؤلاء التلاميذ الدروس؟..الله أعلم.. غادرتهم والحسرة تملأ قلبى على التعليم وثورة التعليم, على وعد بأن أنشر مأساتهم لعل وعسى أن تجد العناية من أهل الخير لمد يد العون فى تشييد هذه المدرسة بالمواد الثابتة ورفدها بمياه الشرب النقية وعمل دورات مياه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق