اليوم التالي - زهرة عكاشة
المُتتبع للنمو العمراني يجد أن السودان أصبح من الدول التي تعتمد على البناء الرأسي، أكثر منه على الأفقي الذي كان يميزه عن بقية دول العالم، فكان من يحلم ببناء منزل لا يتعدى حلمه أكثر من غرفتين و(الحوش) والديوان الذي يستقبل فيه الضيوف. أما الآن فاختلف الأمر كثيراً، كل من يمتلك مالاً ولو يسيراً يريد أن يرتفع ببنيانه إلى أعلى. في باديء الأمر كان من باب الاستثمار سواءً بدكاكين أو شقق واستئجارها للانتفاع منها بعائد مادي يقابل متطلبات المعيشة التي أصبحت هاجساً يؤرق الناس، والبعض الآخر استغلها للسكن والتمتع بالحياة.
"تبليط" الشارع بالـ"سيراميك"
ولمجاراة الحداثة والتحديث، قام بعض أصحاب البيوت القديمة، وحتى الذين بنوا طابقاً أو اثنين، باستقطاع جزء مقدر من الشارع أو الساحات، ومنهم من قام بتسوير ذلك، وبلغ بآخرين الأمر إلى إغلاقة تماماً وتحويله إلى غرفة إضافية وقام بتركيب السيراميك والستائر وفرشها بالأثاث، ومنهم من جعل منها بئراً للصرف الصحي مع استخدامها كغرفة استقبال للرجال للضيوف لمشاهدة دوريات الكرة العالمية والمحلية. أما من لا يحتاج لفعل ذلك، جعل منها حديقة غناء أضافها للمنزل وسورها بالأشجار وحفها بالزهور، ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فبعد أن ضمن المنزل الجميل والنسيم العليل لم ينس أن يركن سيارته أمام الحديقة معلناً مصادرته للشارع برمته.
ومن لم يفعل كل ذلك، فإنه لا شك سيبني "مسطبة" أمام منزله حتى لا يتسخ أو يتسبب المطر في إدخال مياه الشارع إليه، وهذا بالتأكيد لا يتسبب بضرر بالغ يقع على كل من له علاقة بذاك الشارع فسحب، بل حتى العابرين.
فوضى عارمة
يقول "كمال عبد الباسط" موظف، إن انتهاك حرمة الشارع العام بلغت حداً بعيداً، وأن البعض لم يعد يعير علاقات الجيرة أدنى اهتمام، فأصبح الكل يتصرف وكأن الشارع (ملك يمينه)، وفقاً لمصلحته الخاصة، مُشيراً إلى أن بعض جيرانه أقاموا "حوكريات" أمام منازلهم تمددت بعرض الشارع حتى التهمته تماماً، دون مراعاة لحقوق الجيران بالمرة، بحسب تعبيره، مضيفاً: أن آخرين أغلقوا الشوارع أمام السيارات بالحجارة وأكوام التراب والرمال بغرض البناء، فعرقلوا حركة السير ليس للعربات وحدها بل حتى للمارة، واعتبر "كمال" هذا السلوك مرادفاً لحالة الفوضى والتسيب التي تعيشها اللجان الشعبية والمحليات، مؤكداً أن الجهات المسؤولة (المحليات) تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا الوضع المزري والغريب، وأنه لم يشهد أي إجراءات للحيلولة دون مصادرة الشوراع واحتلال الساحات، وناشدها للتدخل الفوري لإزالة ما وصفها بالتشوهات والتعديات.
الجميع محتلون
المؤسف في الأمر أن من يقومون بهذه الأفعال ليسوا أفراداً معدودين، بل كل أهل الحي، حيث تجد أن شوارع بأكملها مسورة ومحوشة، تحت بصر المحليات واللجان الشعبية والمحليات التي غالباً ما يكون منسوبيها من أهل الحي يمارسون الأمر نفسه، وبالتالي لا يستطيعون منع جيرانهم وأهلهم من فعل ذلك، ولا حتى مجرد التحدث معهم.
لكن "حنان الطاهر"، ربة منزل، تنظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، مدافعة عن أحقية المواطنين في إنشاء "الحوكريات" أمام منازلهم، وتعزي ذلك لحاجتهم الماسة لمساحة إضافية، نسبة لضيق رقعة المنزل وازدياد حجم الأسر، فضلاً عن ارتفاع درجات الحرارة والحاجة إلى مكان خارجي يلطف الجو، ويتيح متسعا أكبر لأفراد الأسرة وضيوفها، خاصة من الشباب. وترى "حنان" أن وجود "الحوكريات" لا يُضر الجيران أو المارة في شيء، لأن أغلبها يراعي حرمة الجيرة والشارع، ولا يتمدد إلا في حدود معينة، مستدلة على ذلك بعدم حدوث مشكلات بين أهل الحي بشأنها.
الحاضر الغائب
من جهته عبّر "معاوية يس"، موظف بالمعاش، عن استنكاره لصمت الجهات المعنية لما تتعرض له الشوارع من تجاوزات، واصفاً اللجان الشعبية بأنها أصبحت مثل الحاضر الغائب، ولا تظهر إلاّ في المناسبات، فيما تختفي المحليات ولا تعود إلا في موسم الخريف بعد أن تغرق الأحياء بفعل هذه التجاوزات والتعديات، واستطرد "معاوية": إن ارتكاب البعض لمثل هذا الانتهاك لحرمة الشارع يجب أن لا يصبح حجة لبقية الجيران للذهاب في ذات الطريق، مطالباً المواطنين بأخذ زمام المبادرة والتصدي بأنفسهم للمخالفين.
مساحة منزله
وفي السياق ذاته، يقول "إسماعيل عمر"، موظف: يجب أن تنشأ الحدائق أو تبنى الصالونات على حساب الشارع، وعلى المواطن أن يستقطع ما يشاء من مساحة منزله ويفعل بها ما يريد، ولكن أن يستقطع من الشارع فأن ذلك يعتبر تعديا على الملكية العامة التي هي حق للجميع، ما يتسبب في إغلاق الشارع ومنع الآخرين من المرور بسلاسة، مطالباً الجهات المسوؤلة بتصحيح هذا الخطأ ومحاربته.
حلول إدارية جديدة
إلى ذلك، ينبغي أن نشير إلى أن ولاية الخرطوم أعادت الحياة من جديد إلى وظيفة المعاون الإداري، وهو الشخص الذي كان يضطلع في السابق بمهام الإشراف على الحي من موقع بداخله، وأوكل والي الخرطوم لهذا المعاون جملة من المهام مثل تسجيل المنازل المؤجرة ومعرفة هوية سكانها وحصر المنازل الخالية والقطع السكنية. ومن المقرر بحسب تصريحات الوالي أن يبتدر هؤلاء المعاونون علمهم تحت إشراف المعتمدين، مع منحهم بعض السلطات والصلاحيات التي تمكنهم من إصدار قرارات فورية، لكن يبقى السؤال مطروحاً، هل من ضمن سلطاتهم تلك تصحيح العشوائيات وإزالة الفوضى عن الأحياء السكنية، أم أن المحليات قامت باستيعابهم لخدمة نهجها الجبائي فقط.؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق