محمد عبد الباقي - اليوم التالي
قد يكون من حظ السودانيين أن الإنجليز عندما استعمروا السودان شيدوا من المباني (على قلتها) ما لا يستطيع الدهر أن يأكل عليها ويشرب دون أن يستعين بسودانيين. فجل المباني ذات الأوتاد التي تسر وتعجب العباد، هي من صنع أيديهم، وإذا أردت أن تتأكد فارجع البصر كرتين ستجد (القصر الجمهوري، جامعة الخرطوم، البوستة، المستشفيات الكبيرة، السوق الأفرنجي، السينمات والمباني المنشآة بحذق وفن ومهنية عالية)، لكن بعد رحيل المستعمر أعمل الوطنيون في تلك المباني تدميراً وعاثوا فيها خراباً، فأهملوها وتركوها نهباً للزمن والمناخ القاسي، لا أحد (يصين)، حتى إن (صان) لابد أن يغير المعالم.
تعمير الخرائب
للوقوف على ظاهرة تداعي وانهيار المباني القديمة كانت هذه الجولة الاستقصائية التي أوضحت أننا لم نكن مُنصفين في أحايين كثيرة. فالمستعمر (عمَّر) ما كان خرائب، حيثُ أنه ربط المدن والأرياف ببعضها البعض، من خلال السكك الحديدية والطرق والجسور، وبنى الأنجليز منازلهم التي (تركوها) للحكومة الوطنية على طراز مباني الريف الإنجليزي الجميلة والشهيرة، حيث الحدائق الملحقة وسقوف القرميد، و(الهولات) الفخمة، وبنوا مقرات الإدارة والحكم والمدارس على ذات النسق، مدارس بـ (جوش كبير) وأشجار باسقات، وملاعب سلة وطائرة وقدم، ومضامير سباق، وما لا تسعه المساحة أكثر.
مباني العهد الوطني
وبعد أن نال السودان استقلاله أخذ البناء فيه طابع المدنية بحسب الأستاذ (جابر مصطفى)، معلم بالمعاش الذي أضاف: بعد الاستقلال ترك الناس البناء بالمواد المحلية في المدن، واتجهوا إلى المواد الثابتة التي ما زالت بقاياها تقف متحدية الطبيعة في عدد من أحياء الخرطوم، ويتبدى هذا بوضوح في أحياء الخرطوم وبحري وبعض أحياء أم درمان القديمة الخ، حيث ما زالت هذه الأحياء تحتضن أنقاض البنايات القديمة التي ما زال بعضها يقاوم عوامل الطبيعة، بينما هوت الأخرى بمعاول الإدارات الوطنية التي كانت تُسابق الزمن من أجل كسب مصالح شخصية، كما حدث قبل سنوات في مدرسة أم درمان الأميرية ويحدث الآن في مدرسة وادي سيدنا الثانوية التي هُدمت أجزاء من مبانيها القديمة، وتم بناء أخرى حديثة مكانها ظهر عليها العطب بعد عام واحد من تشييدها.
هدمان رسمي وشعبي
ولأن البنايات القديمة تهدم وتُزال بمعولين، الأول رسمي والثاني شعبي، تقوم الجهات الرسمية بهدم أو تغيير ملامح كثير من المباني القديمة، كما حدث لداخليات جامعة الخرطوم التي فعل فيها (الصندوق القومي لرعاية الطلاب) أفعالاً جعلت البروفيسور (إدريس مصطفى) مدير الجامعة السابق يستنجد برئاسة الجمهورية لوقف الزحف على المباني القديمة لما لها من دلالات وأهمية وقيمة تاريخية.
أما المعول الشعبي، فهو أن يقوم المواطنون بإزالة منازلهم القديمة وبناء أخرى جديدة في مكانها دون أن تتدخل الجهات المعنية لمنع هذا الفعل (يعني كل واحد على كيفو).
صدمات الإزالة
وفي السياق، تتم على نحو مستمر عمليات كثيرة لهدم المباني القديمة في مدينة من مدن السودان بأمر السلطات المحلية، كما حدث لأقدم مبنى في مدينة القضارف، حيث أُزيل مبنى بلدية المدينة العريق بحجة أن الولاية تريد شق طرق دائرية، وهكذا فعلت معظم المحليات دون أن يحاسبها أحد. استطراداً في طرح هذه القضية قسمت الدكتورة (هويدا محمد آدم) رئيس قسم الآثار بكلية الآداب جامعة الخرطوم في حديث سابق، المباني القديمة إلى قسمين، الأول تاريخي، وهو الذي لم يبلغ (100 عام)، ولكنه يتميز بأهمية خاصة تجعل المحافظة عليه واجباً وطنياً. وأضافت: الثاني هو المبنى الذي أكمل (100عام) وهذا يدخل في منظومة الآثار ويحمى بقانون الآثار (إن فُعِّل). واستطردت: لكن كثيراً من الجهات الرسمية تستغل عدم تفعيل القانون وتعبث بكل ما هو أثري. وأعربت رئيسة قسم الآثار بجامعة الخرطوم عن عميق حزنها لما يحدث للمباني الواقعة على شارع النيل بالخرطوم. وقالت: كلما أذهب إلى هناك أُصاب بالصدمة جراء الإزالة المستمرة والمتواترة لمبانٍ أثرية وتاريخية مهمة.
وأبدت الدكتورة (هويدا) تخوفها الشديد من أن تستبق الجهات الرسمية الفترة التي لم يُفعل فيها قانون حماية الآثار، وتقوم بهدم كل المباني الأثرية أو تشوهها بعمل ترميمات تغير من ملامحها القديمة، كما حدث لمستشفى العيون الذي تم عرضه للبيع.
لا نعفي أنفسنا ولكن!!
إلى ذلك، قال الدكتور (يحيى فضل طاهر) أستاذ الآثار والبيئة بقسم الآثار في كلية الآداب جامعة الخرطوم، إن ثقافة المحافظة على الآثار عند السودانيين تكاد تكون معدومة. وأضاف: لذلك لا يهتمون بأي مبنى أثري أما نحن كأكاديميين فلا نعفي أنفسنا من تفشي عدم الاهتمام بالآثار بين قطاعات كبيرة من المواطنين. وأردف: كان من الأحرى بنا أن نعمل على توعيته وتبصيره، ولكن هذا يحتاج إلى دعم مالي وإمكانيات غير متوفرة لدينا الآن.
قد يكون من حظ السودانيين أن الإنجليز عندما استعمروا السودان شيدوا من المباني (على قلتها) ما لا يستطيع الدهر أن يأكل عليها ويشرب دون أن يستعين بسودانيين. فجل المباني ذات الأوتاد التي تسر وتعجب العباد، هي من صنع أيديهم، وإذا أردت أن تتأكد فارجع البصر كرتين ستجد (القصر الجمهوري، جامعة الخرطوم، البوستة، المستشفيات الكبيرة، السوق الأفرنجي، السينمات والمباني المنشآة بحذق وفن ومهنية عالية)، لكن بعد رحيل المستعمر أعمل الوطنيون في تلك المباني تدميراً وعاثوا فيها خراباً، فأهملوها وتركوها نهباً للزمن والمناخ القاسي، لا أحد (يصين)، حتى إن (صان) لابد أن يغير المعالم.
تعمير الخرائب
للوقوف على ظاهرة تداعي وانهيار المباني القديمة كانت هذه الجولة الاستقصائية التي أوضحت أننا لم نكن مُنصفين في أحايين كثيرة. فالمستعمر (عمَّر) ما كان خرائب، حيثُ أنه ربط المدن والأرياف ببعضها البعض، من خلال السكك الحديدية والطرق والجسور، وبنى الأنجليز منازلهم التي (تركوها) للحكومة الوطنية على طراز مباني الريف الإنجليزي الجميلة والشهيرة، حيث الحدائق الملحقة وسقوف القرميد، و(الهولات) الفخمة، وبنوا مقرات الإدارة والحكم والمدارس على ذات النسق، مدارس بـ (جوش كبير) وأشجار باسقات، وملاعب سلة وطائرة وقدم، ومضامير سباق، وما لا تسعه المساحة أكثر.
مباني العهد الوطني
وبعد أن نال السودان استقلاله أخذ البناء فيه طابع المدنية بحسب الأستاذ (جابر مصطفى)، معلم بالمعاش الذي أضاف: بعد الاستقلال ترك الناس البناء بالمواد المحلية في المدن، واتجهوا إلى المواد الثابتة التي ما زالت بقاياها تقف متحدية الطبيعة في عدد من أحياء الخرطوم، ويتبدى هذا بوضوح في أحياء الخرطوم وبحري وبعض أحياء أم درمان القديمة الخ، حيث ما زالت هذه الأحياء تحتضن أنقاض البنايات القديمة التي ما زال بعضها يقاوم عوامل الطبيعة، بينما هوت الأخرى بمعاول الإدارات الوطنية التي كانت تُسابق الزمن من أجل كسب مصالح شخصية، كما حدث قبل سنوات في مدرسة أم درمان الأميرية ويحدث الآن في مدرسة وادي سيدنا الثانوية التي هُدمت أجزاء من مبانيها القديمة، وتم بناء أخرى حديثة مكانها ظهر عليها العطب بعد عام واحد من تشييدها.
هدمان رسمي وشعبي
ولأن البنايات القديمة تهدم وتُزال بمعولين، الأول رسمي والثاني شعبي، تقوم الجهات الرسمية بهدم أو تغيير ملامح كثير من المباني القديمة، كما حدث لداخليات جامعة الخرطوم التي فعل فيها (الصندوق القومي لرعاية الطلاب) أفعالاً جعلت البروفيسور (إدريس مصطفى) مدير الجامعة السابق يستنجد برئاسة الجمهورية لوقف الزحف على المباني القديمة لما لها من دلالات وأهمية وقيمة تاريخية.
أما المعول الشعبي، فهو أن يقوم المواطنون بإزالة منازلهم القديمة وبناء أخرى جديدة في مكانها دون أن تتدخل الجهات المعنية لمنع هذا الفعل (يعني كل واحد على كيفو).
صدمات الإزالة
وفي السياق، تتم على نحو مستمر عمليات كثيرة لهدم المباني القديمة في مدينة من مدن السودان بأمر السلطات المحلية، كما حدث لأقدم مبنى في مدينة القضارف، حيث أُزيل مبنى بلدية المدينة العريق بحجة أن الولاية تريد شق طرق دائرية، وهكذا فعلت معظم المحليات دون أن يحاسبها أحد. استطراداً في طرح هذه القضية قسمت الدكتورة (هويدا محمد آدم) رئيس قسم الآثار بكلية الآداب جامعة الخرطوم في حديث سابق، المباني القديمة إلى قسمين، الأول تاريخي، وهو الذي لم يبلغ (100 عام)، ولكنه يتميز بأهمية خاصة تجعل المحافظة عليه واجباً وطنياً. وأضافت: الثاني هو المبنى الذي أكمل (100عام) وهذا يدخل في منظومة الآثار ويحمى بقانون الآثار (إن فُعِّل). واستطردت: لكن كثيراً من الجهات الرسمية تستغل عدم تفعيل القانون وتعبث بكل ما هو أثري. وأعربت رئيسة قسم الآثار بجامعة الخرطوم عن عميق حزنها لما يحدث للمباني الواقعة على شارع النيل بالخرطوم. وقالت: كلما أذهب إلى هناك أُصاب بالصدمة جراء الإزالة المستمرة والمتواترة لمبانٍ أثرية وتاريخية مهمة.
وأبدت الدكتورة (هويدا) تخوفها الشديد من أن تستبق الجهات الرسمية الفترة التي لم يُفعل فيها قانون حماية الآثار، وتقوم بهدم كل المباني الأثرية أو تشوهها بعمل ترميمات تغير من ملامحها القديمة، كما حدث لمستشفى العيون الذي تم عرضه للبيع.
لا نعفي أنفسنا ولكن!!
إلى ذلك، قال الدكتور (يحيى فضل طاهر) أستاذ الآثار والبيئة بقسم الآثار في كلية الآداب جامعة الخرطوم، إن ثقافة المحافظة على الآثار عند السودانيين تكاد تكون معدومة. وأضاف: لذلك لا يهتمون بأي مبنى أثري أما نحن كأكاديميين فلا نعفي أنفسنا من تفشي عدم الاهتمام بالآثار بين قطاعات كبيرة من المواطنين. وأردف: كان من الأحرى بنا أن نعمل على توعيته وتبصيره، ولكن هذا يحتاج إلى دعم مالي وإمكانيات غير متوفرة لدينا الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق