د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
انعقد بالخرطوم يومي الأثنين والثلاثاء 25 و26 أغسطس عام 2014 الاجتماع الرابع بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سدِّ النهضة الإثيوبي. وقد قاد الوفد المصري للاجتماع وزير الري والموارد المائية الجديد الدكتور حسام الدين مغازي، وقاد وفد السودان السيد معتز موسى وزير الموارد المائية والكهرباء، بينما قاد الوفد الإثيوبي السيد ألمايو تيجنو وزير الري والموارد المائية، والذي هو أقدم الوزراء الثلاثة في المنصب. وقد كانت كلمة كلٍ من الوزراء الثلاثة في الجلسة الافتتاحية للاجتماعات هادئةً لا تحمل أدنى درجات الانفعال أو التصلّب في المواقف. بل وقد ركّزت كلٌ من هذه الكلمات على ضرورة التعاون والاستفادة القصوى من مياه النيل وحلِّ الخلافات بصورةٍ ودية عن طريق التفاوض .
ويأتي هذا الاجتماع على خلفية مجموعة من التطورات الاقليمية والدولية، والحقائق التي برزت مؤخراً.
ويأتي هذا الاجتماع على خلفية مجموعة من التطورات الاقليمية والدولية، والحقائق التي برزت مؤخراً.
2
3
ورغم أن إثيوبيا أبدت بعض المرونة بقبولها لفريق عملٍ من الخبراء من الدول الثلاثة للقيام بالدراسات، إلا أن مصر تمسّكت بمواقفها السابقة. وقد زاد ميلادُ الحلف الإثيوبي السوداني الجديد مصرَ تخوفاً وعناداً. إذ رأت مصرُ فيه عقوقاً من شقيقها الأصغر وحليفها القديم الذي أصبح صديقاً لعدوها. وقرّرت مصر أن تبرز عضلاتها للسودان بمزيدٍ من إجراءات ضمِّ حلايب لمصر، وفتح المكاتب للمعارضة السودانية في القاهرة.
4
واستفادت إثيوبيا من هذه الفترة كثيراً لتواصل بناء السد وإبرازه كحقيقة لا يمكن القفز فوقها، أو حتى الحديث عن وقف البناء. وواصلت أوروبا مساعدتها لإثيوبيا في بناء السد. فالشركة الايطالية "ساليني" تواصل بناء السد، والشركات الفرنسية والسويسرية والانجليزية تتنافس على بيع المعدات الميكانيكية للسد، بينما تواصل الشركات الصينية بناء خطوط شبكة نقل كهرباء السد التي سوف يبدأ توليدها بعد عامٍ وأشهر قلائل، وتوصيلها إلى بقية إثيوبيا، وإلى دول الجوار.
5
تحت هذه الظروف فقد لجأ بعض الكتّاب المصريين إلى تصريحاتٍ هوجاء مفادها أن البنك الدولي والدول الأوربية قد أوقفت تمويلها للسد (رغم أنه ليس هناك أي تمويلٍ خارجيٍ للسد). ثم أعلنوا أن بحيرة السد سوف تخلق أخدوداً ضخماً سيصل مكة ويشقُّ الكعبة نفسها إلى شطرين أو ثلاثة. وقد أضرّت تلك التصريحات بمصداقية مصر كثيراً.
غير أن العقلاء في القاهرة رأوا أن الزمن، والعداء الإعلامي لإثيوبيا والسودان والسد، والتصريحات غير المسئولة، ليست من مصلحة مصر ،فقرروا العودة لطاولة التفاوض.
6
7
وتنبني الاتفاقية على التعاون بين دول الحوض المشترك، وتشمل الاتفاقية كلمة "تعاون" ومشتقاتها خمسة عشر مرة. كما تنبني الاتفاقية على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول لكل دولة من دول الحوض المشترك، وتضع سبعة عوامل لتحديد هذا الانتفاع المنصف والمعقول. وتنادي الاتفاقية بالمشاركة وتبادل المعلومات وحلِّ النزاعات بالطرق الودية والسلمية، وتعترف لكل دولة من دول الحوض بحقها في المشاركة والانتفاع من مياه الحوض.
لقد كنتُ أحد أعضاء مجموعة القانونين الدوليين الذين كانت مهمتهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية شرح الاتفاقية للدول الراغبة والإجابة على التساؤلات عنها. وسوف يكون من الصعب نقل حالة الفرح والنشوة التي انتشرت بين الدول الأعضاء في الاتفاقية والقانونيين وخبراء المياه الآخرين الذين وقفوا وراء الاتفاقية حتى دخلت حيز النفاذ. فقد عُقِدتْ عدّةُ ندوات حول دخول الاتفاقية حيز النفاذ خلال شهر ي يونيو ويوليو الماضيين. وركّزت الدوريات الثلاثة الرئيسية المتخصّصة في مجال المياه على إبراز ما دار في تلك الندوات، وسوف تنشر كلٌ من هذه الدوريات مقالاتٍ عن الاتفاقية وتداعيات دخولها حيز النفاذ. بل إن دار النشر العالمية المرموقة "بريل" قرّرتْ بعد دخول الاتفاقية حيز النفاذ بدء دورية علمية متخصّصة في "قوانين المياه الدولية."
ورغم أن أطراف الاتفاقية لا تشمل أياً من دول حوض النيل الاحدى عشر، إلا أن الرسالة التي أرسلتها الاتفاقية ودخولها حيز النفاذ كانت واضحة: لقد بدأ عهدٌ جديدٌ في إدارة المجاري المائية المشتركة ينبني على التعاون والمشاركة والانتفاع المنصف والمعقول وحل النزاعات سلمياً. وهذه القواعد تُمثّل القانون العرفي الدولي للمياه المشتركة، وتُلزم ليس فقط الدول الأطراف في الاتفاقية، بل كل دول العالم.
8
9
وهكذا قبلت مصر أخيراً حقيقة أن السد قد أصبح واقعاً لا يقبل الجدل، أو حتى الحديث عن وقف بنائه. كما قبلت إثيوبيا مبدأ المشاركة الدولية في الدراسات الذي ظلت مصر تنادي به منذ الاجتماع الأول. وجاء البيان الختامي توافقياً حفظ لكلٍ من مصر وإثيوبيا ماء وجهها، وحفظ للسودان دوره كوسيط ومستفيدٍ من السد.
10
وقد وضحت فائدة السدود الإثيوبية على السودان وأصبحت أمراً واقعاً حتى قبل أن يكتمل سد النهضة ويبدأ في توليد الكهرباء والتي ينتظرها السودان بفارغ الصبر لسد عجزه من الكهرباء البالغ 40% من اجتياجاته، ولوقف قطوعات الكهرباء التي عادت إلى واجهة الحياة السودانية بوضوح خلال الشهرين الأخيرين.
وقد وضح لمصر بجلاء أن إصرارها على وقف بناء السد حتى اكتمال الدراسات لم ولن يجد قبولاً إقليمياً أو عالمياً، أو حتى من حلفائها العرب. ولتأكيد الرؤية والاتفاق على أن السد قد أصبح حقيقةً واقعة فقد اشتمل البيان الختامي للاجتماع الثلاثي على دعوة وزير الري الإثيوبي لنظيريه الوزيرين المصري والسوداني لزيارة موقع السد والوقوف على التطورات هناك.
كما تُمثّل نتائج الاجتماع مرونةً في الموقف الإثيوبي واعتماد مبدأ أن المفاوضات أخذٌ وعطاء، وأنه يجب على إثيوبيا قبول مشاركة دولية في الدراسات لتأكيد دعواها أن السد لن تكون له آثار سلبية على مصر، وقبول مبدأ ضرورة التخفيف والحدِّ من الآثار السلبية إن أثبتت الدراسات ذلك.
كما أن اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية قد خلقت واقعاً دولياً جديداً ينبني على التعاون والمشاركة والانتفاع المنصف والمعقول لكل دول الحوض وحل الخلافات يطريقة سلمية وعن طريق التفاوض. وهي مبادئ لا يمكن تجاهلها وغضّ الطرف عنها.
11
غير أنه إذا تواصلت الروح التعاونية التي سادت الاجتماع الرابع فإن هذه التفاصيل يمكن الاتفاق عليها وترجمة البيان الختامي للاجتماع الثلاثي الرابع على أرض الواقع بصورةٍ إيجابيةٍ ومرضية. كما يمكن أيضاً (بل يجب) المُضي قُدُماً إلى مساحاتٍ أكبر وأوسع للتعاون مع دول حوض النيل الأخرى لانتشال شعوب الحوض من الفقر والجوع والعطش والظلام الذي تعيشه غالبيتهم، والذي يزداد يوماً بعد يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق