المجهر السياسي
حينما خرج صباح الأربعاء الماضي الزملاء الذين قرروا السفر إلى أثيوبيا براً لزيارة (سد النهضة) الذي يقع على الشمال الغربي لأثيوبيا والجانب الشمالي للعاصمة أديس أبابا، بعد أن حدثهم السفير الأثيوبي «أبادي زموا» داخل مبنى سفارة بلاده في الخرطوم عن صعوبات ستواجههم خلال الرحلة، لم يخطر ببالهم أن تبلغ تلك الصعوبات هذا الحد، فقد بدأت المعاناة بمجرد عبور الجسر الرابط بين منطقة القلابات السودانية والمتمة الأثيوبية وتجاوزنا تلك المنطقة بعد أن تعذّرت مواصلة الرحلة بذات العربة التي قدمنا بها من الخرطوم.
{ سطان النوم
بعضنا قرر العودة إلى الخرطوم والتخلي عن الرحلة التي بدأت من المتمة بعد الاقتناع بعدم إمكانية دخول البص أو تجاوز الإجراء القانوني من قبل أفراد الجوازات الأثيوبية والسماح للسائق الأثيوبي بقيادة البص السوداني داخل حدود بلاده لعدم حصوله على تأشيرة مغادرة من السفارة، واستمرت الرحلة على متن ثلاث عربات (هايس) بعد أن حسم بعضنا تردده وقرر مواصلة المسير.. بعد يومين وصلنا إلى مدينة بحر دار حاضرة إقليم الأمهرا بعد حوالي (900) كيلومتر من الخرطوم بعد أن قضينا ليلتنا الأولى في ضيافة حكومة ولاية القضارف وواليها «الضو محمد الماحي».
النعاس تغلب على صمود الكثيرين، ورفض أن يترك الجفون متيقظة فتوارى كل خلف غرفته لبضع ساعات.. صمتُنا لم يكسره إلا صوت زخات المطر التي سمعناها من على نافذة صالة الطعام قبل أن يحدثنا مندوب وزارة السدود ومصادر المياه الأثيوبية عن تفاصيل الرحلة، التي بدأت في يومها التالي عند التاسعة صباحاً بالصعود إلى أعلى البص والنظر إلى مدينة بحر دار وأهلها يسيرون على جنبات الطرق قاصدين الكنائس في صباح الجمعة.
كلٌ منا كان يضع تصوراته لبرنامج عمله، ويفسح لخياله المجال لوضع صورة أولية عن السد ومنطقته، التي أخبرنا أن وصولنا إليها يقتضي أن نتجاوز مسافة (400) كيلومتر في زمن يتراوح ما بين (6) إلى (8) ساعات، ولكنها في نهاية الأمر قاربت من العشر ببضع دقائق بسبب وعورة الطريق الترابي.
{ انزعاج وتوتر
تهادت العربة بين جنبات الهضاب التي تلبس ثوب الخضرة الذي تظهر فيه بين فينة وأخرى مجارٍ للمياه كما لون الخيط الأبيض على الثوب، وتتثنى عند المنعرجات كما الحسناء في ليلة زفافها تأبى أن تغادر بيت أبيها، ولكن قدرها يدفع رجليها إلى الأمام كمن يسير على الوحل. وطول الطريق أتاح للكثيرين براحاً للتأمل ومحادثة الذات، ولعل بعضنا خرج من تلك الحالة ودعا لمقارنة المشقة بفائدة الرحلة المرتجاة من حيث دسامة المادة الصحفية وتأثيرها على الحاضر والمستقبل.. وبذلك فتح باب كبير للجدل.. وعلى كل حال فقد حدثنا أحد مرافقينا الأثيوبيين بعد تجاوزنا عدداً من نقاط التفتيش أننا على بعد دقائق من بوابة العبور الرئيسية للمنطقة المقصودة، التي أخبرنا توقف البص والعربة الـ(تويوتا) التابعة لوزارة السدود ومصادر المياه الأثيوبية المرافقة لنا عند اعتراض الحبل المتعارض على الطريق لهما بأننا بلغنا مقصدنا.. وحينها بدا الانزعاج والتوتر على وجه أحد الأثيوبيين بسبب أن أفراد نقطة العبور طلبوا أوراق الإذن الممنوح من رئاسة الوزارة للعربة التي كانت على متنها زميلتنا من وكالة السودان للأنباء «معزة» والتي أعياها الطريق.
الهاتف جاء بالفرج، فقد سمح للعربتين بالعبور والاستمرار في الطريق إلى (أبّاي).. نعم، الطريق إلى (سد النهضة العظيم) كما ينادونه هنا ويطلقون مسمى (أبّاي) على النيل الأزرق.. توقفنا عند المدخل الذي يبعد بضعة كيلومترات عن جسم السد عند نقطة تفتيش أخرى، وظهر ضابط برتبة النقيب وألقى بالتحية العسكرية من الأسفل على سائق البص الذي رد بمثلها رغم أنه يرتدي الزي المدني.. وبعد لحظات وجدنا أن عربة كانت تنتظرنا لترشدنا إلى حيث المكان المقصود.. حينها تجاوزنا الزمن المقرر لإفطار رمضان بوقت غير قصير، وتوقفت العربات فجأة وساد الصمت الذي كسره صوت أحد الزملاء محتجاً على الوقوف، فأخبرنا بأن مدير المشروع سيأتي لاستقبالكم قبل دخولكم إلى صالة الطعام، ولعل بعضنا تمنى أن يستمر السير إلى الأمام لنقطع مسافة (20) كيلومتراً فقط، وهي المسافة التي تكفل لنا أن نكون داخل السودان من على الحدود الأثيوبية، حيث منطقتي الكرمك السودانية والأثيوبية.
{ شرح تفصيلي
بوابة التفتيش التي وضعت في مكان لا يسمح لأحد بالدخول إلى المكان إلا عبرها، بمجرد تجاوزنا لها اختلفت معالم المكان وتبدل صوت احتكاك الإطارات مع الحجارة الصغيرة وحفر الطريق وحل محله صوت الآليات والرافعات ونقل الصخور الضخمة.. وصلنا (أبّاي) وجسم السد تفصله قناته الرئيسية بمياه النيل كما شكل الإنسان الذي يلوح بكلتا يديه ترحيباً بضيوفه.. عفواً لم أشأ أن أسأل أحد الزملاء عن ما حدث بعد تقسيم الحاضرين على الغرف، فجميعهم لم يتابع ما يدور في الخارج إلا عند فجر اليوم التالي عندما تحرك المستشار الإعلامي للسفارة الأثيوبية في السودان «خالد ثابت» باحثاً عن من لم يخرج من غرفته لـ(السحور)، وحينها أُخطرنا بأن مدير مشروع السد الأثيوبي سيقدم بعد ثلاث ساعات شرحاً تفصيلياً عن مراحل بناء السد ومستقبله، وتليه زيارات إلى جسم السد والمنطقة المحيطة به.
{ تجهيز البحيرة
الجانب الآخر من الكوب يحدث عن نهضة ضخمة تسير بهدوء وصمت هنا في أثيوبيا، وحتى النظر للطرق غير المسفلتة نفسها يعطي مؤشرات على أن مستقبل هذا البلد والمناطق التي عبرناها كبير، وأن مشروع السد ستصحبه مشروعات أخرى على رأسها تحول المنطقة (منطقة بني شنقول) التي يقع فيها السد إلى أكبر منطقة سياحية في العالم حسب ما حدثنا مدير مشروع سد النهضة «سيمنغوي بكلي»، ويبدو واضحاً للعيان منذ الوهلة الأولى أن الجميع يعملون دون تمييز أو جندرة، فالمرأة تقود الرافعات وترحل الضخم من الصخور، وتتفوق على الرجل في قطع الأشجار يدوياً وترحيلها لتجهيز بحيرة السد، التي علمنا أنها تتطلب إزالة آلاف الكيلومترات حتى تصبح صالحة وتؤمن المخاوف من تلوث مياه النيل نتيجة انبعاث غاز الميثان.
{ شرح فني
جلس الصحفيون على جانبي منضدة توسطتها شاشة عرض، وجلس إلى يسار المنضدة مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» وأمامه بضعة ميكروفونات تمثل أجهزة إعلامية، وجهاز (لابتوب) ومؤشر يحمله على يده، وبدأ مرحباً بحضور الوفد السوداني ومعتذراً عن المشقة التي واجهتهم حتى وصولهم إلى (أبّاي)، وذهب إلى تقديم الشركات العاملة في المشروع، وهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات، فرنسية وإيطالية ووطنية أثيوبية.
وشاهدنا أن العمل في بناء السد الأثيوبي، الذي ينتظر أن يولد (6000) ميغاواط من الكهرباء، يمضي بوتيرة واحدة ليل نهار رغم معارضة مصر التي تتخوف من تآكل نصيبها التاريخي في مياه النيل، وعلى طول الطريق يبدو واضحاً أن مساحة المشروع التي أخبرنا أنها تصل إلى (1780) كيلومتراً في المنطقة من الغابات والجبال لا تخلو من البشر، حيث يُلحظ وجود أشخاص في أماكن لا يتخيل أن توجد فيها حياة.
مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» قال إن السد عند اكتماله سيكون ضمن أكبر (10) سدود على مستوى العالم والأول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ستصل الكهرباء منه على المدى الإستراتيجي حتى أوروبا، وفي المرحلة الأولى إلى السودان وكينيا ومصر وجيبوتي والعديد من البلدان الأخرى. كما أن الرجل الذي أدار سدين سابقين داخل أثيوبيا وشارك في الثالث، يبدو واثقاً من نفسه ومن قدرة حكومته على إكمال المشروع، حيث قال إن الدراسات والخطط التي وضعت أكدت سلامة المشروع.
{ هيكل السد
الشرح على شاشة الـ(بروجيكتر) وضّح الهيكل الكامل لجسم السد الذي يبلغ عمقه (512) متراً تم تجهيز (466) متراً منها. والجسم الأساسي مع البحيرة تم إجراء اختبارات عليه منذ مرحلة الخطط وحتى بداية التنفيذ حيث أخبرنا «سيمنغوي بكلي» بأن السد يمتد في مساحة تصل إلى (1780) كيلومتراً، وأن الجسم الرئيسي يتكون من قناة الوسط وجانبين على اليمين ينتظر أن يولد (3750) كيلواط، بينما ينتظر أن يولد يسار السد (2250) كيلواط لتتجمع الكهرباء من الجانبين مع الوسط في الجسم الأساسي في (6) وحدات عاملة للتوليد، إلى جانب وجود (60) مضخة تعمل على سحب المياه لتتدفق إلى المولدات (التوربينات) العاملة في أسفل جسم السد، وأشار إلى وجود (10) بوابات في الجانب الأيمن للسد، و(4) أخرى في الجسم الرئيسي، وقال «سيمنغوي بكلي» إن الكهرباء يتم سحبها إلى غرفة التحكم وتستمر المياه في الجريان والانسياب بشكل طبيعي دون أن تتوقف أو يتم حجزها، كما أن «سيمنغوي بكلي» أشار إلى وجود مخرج للطوارئ في جسم السد لتأمين شحن الطاقة بصورة آمنة وتفريغ المياه في حال ارتفاع المنسوب، وأضاف: (هناك ثلاث مخارج أخرى على الجانب اليسار من جسم السد الأساسي)، وقال إن بحيرة السد تمتد في مساحة تصل إلى (640) كيلومتراً بارتفاع يبلغ (145) متراً في الجسم الأساسي، بعمق طوله (1700) متر.
وذهب «سيمنغوي بكلي» إلى أنهم الآن في مرحلة وضع الأساس للسد بغرض إكمال الجسم الأساسي للسد والجوانب الفنية، وأن المرحلة التالية ستكون للاستخدام، وأضاف: (لدينا خبرات وطنية ومواد محلية ملائمة للعمل وأيدٍ عاملة)، والرجل ظل يردد أن المواد المحلية والتربة خضعت لاختبارات معملية في معامل متخصصة وعلى مستوى عالمي، وأن تلك التجارب مستمرة في كل المراحل.
{ تحويل مجرى
القضية التي صعّدت من المخاوف المصرية في المرحلة السابقة من مراحل بناء السد، تمثلت في الإعلان المفاجئ للجانب الأثيوبي عن عزمه تحويل مجرى النيل الأزرق ليتمكن من بناء السد، وبزيارتنا هذه وقفنا على المنطقة التي تحول منها مجرى النهر، حيث أخبرنا مدير المشروع أن التحويل تم في (28) ميلاً بغرض تمكين القناة الرئيسية من العمل والتمكن من بناء أطراف السد ومن ثم إعادة جريان النهر إلى شكله الطبيعي، وقال إن المرحلة القادمة سيتم فيها فتح المسار الحالي وإغلاق النيل من الجانب الآخر (يمين السد) حتى يتم البناء.
{ الهروب من الأسئلة الساخنة
العديد من الأسئلة الأساسية تم طرحها على مدير المشروع، لكنه تعامل بطريقتين، إما الرد بدبلوماسية لا تمنحك الإجابة ولا تجعله يرفض ذلك صراحة، وظل الزملاء يتبادلون طرح الأسئلة بطرق مختلفة، ولكن الرجل أظهر مقدرات سياسية فائقة في الهروب من الأسئلة، وعند الضغط عليه يؤجل السؤال ويقول: (سأجيب عليه ولكن الآن دعوني أخبركم بكذا وكذا)، وبذلك يكون هرب مرة أخرى، ولكن في إحدى المرات تمت محاصرته بسؤال عن وجود الحركات المسلحة السودانية في ولاية النيل الأزرق السودانية التي تبعد (20) كيلومتراً من جسم السد، فرد بالقول: (أنتم أتيتم من بحر دار إلى هنا في مسافة تزيد عن الأربعمائة كيلومتر وستعودون بذات الطريق حتى أصوصا.. هل قابلتكم مشاكل من ذلك القبيل؟).. وبإجابته تلك أراد أن يقول إن تلك مشكلتكم الداخلية كسودانيين، ولكن عندما أُحكم عليه الحصار قال إن الأسئلة السياسية معني بها المستوى الوزاري الذي ستقابلونه في أديس أبابا، وإن دوره وتفويضه ينحصر في الجانب الفني فقط.. وأيضاً من الأسئلة التي هرب منها الرجل تحديد الفترة التي ستمتلئ فيها بحيرة السد، ومصادر التمويل والتكلفة الكلية لبناء السد، وغيرها من الأسئلة.
{ فوائد للسودان
مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» حدثنا كثيراً وفي مواقع مختلفة على مدار اليوم ونصف اليوم، الفترة التي قضيناها معهم، بعض الحديث قاله صراحة، والآخر تلميحاً إلى أن السد لا تملكه أثيوبيا وحدها وإنما يشاركها فيه السودان بحكم الجيرة والمصالح المشتركة، وقال صراحة إن السودان سيحصل على (2600) ميغاواط من كهرباء السد، إلى جانب حجز الطمي الذي يمكّن السودان من استخدام الماء بشكل أمثل.
حينما خرج صباح الأربعاء الماضي الزملاء الذين قرروا السفر إلى أثيوبيا براً لزيارة (سد النهضة) الذي يقع على الشمال الغربي لأثيوبيا والجانب الشمالي للعاصمة أديس أبابا، بعد أن حدثهم السفير الأثيوبي «أبادي زموا» داخل مبنى سفارة بلاده في الخرطوم عن صعوبات ستواجههم خلال الرحلة، لم يخطر ببالهم أن تبلغ تلك الصعوبات هذا الحد، فقد بدأت المعاناة بمجرد عبور الجسر الرابط بين منطقة القلابات السودانية والمتمة الأثيوبية وتجاوزنا تلك المنطقة بعد أن تعذّرت مواصلة الرحلة بذات العربة التي قدمنا بها من الخرطوم.
{ سطان النوم
بعضنا قرر العودة إلى الخرطوم والتخلي عن الرحلة التي بدأت من المتمة بعد الاقتناع بعدم إمكانية دخول البص أو تجاوز الإجراء القانوني من قبل أفراد الجوازات الأثيوبية والسماح للسائق الأثيوبي بقيادة البص السوداني داخل حدود بلاده لعدم حصوله على تأشيرة مغادرة من السفارة، واستمرت الرحلة على متن ثلاث عربات (هايس) بعد أن حسم بعضنا تردده وقرر مواصلة المسير.. بعد يومين وصلنا إلى مدينة بحر دار حاضرة إقليم الأمهرا بعد حوالي (900) كيلومتر من الخرطوم بعد أن قضينا ليلتنا الأولى في ضيافة حكومة ولاية القضارف وواليها «الضو محمد الماحي».
النعاس تغلب على صمود الكثيرين، ورفض أن يترك الجفون متيقظة فتوارى كل خلف غرفته لبضع ساعات.. صمتُنا لم يكسره إلا صوت زخات المطر التي سمعناها من على نافذة صالة الطعام قبل أن يحدثنا مندوب وزارة السدود ومصادر المياه الأثيوبية عن تفاصيل الرحلة، التي بدأت في يومها التالي عند التاسعة صباحاً بالصعود إلى أعلى البص والنظر إلى مدينة بحر دار وأهلها يسيرون على جنبات الطرق قاصدين الكنائس في صباح الجمعة.
كلٌ منا كان يضع تصوراته لبرنامج عمله، ويفسح لخياله المجال لوضع صورة أولية عن السد ومنطقته، التي أخبرنا أن وصولنا إليها يقتضي أن نتجاوز مسافة (400) كيلومتر في زمن يتراوح ما بين (6) إلى (8) ساعات، ولكنها في نهاية الأمر قاربت من العشر ببضع دقائق بسبب وعورة الطريق الترابي.
{ انزعاج وتوتر
تهادت العربة بين جنبات الهضاب التي تلبس ثوب الخضرة الذي تظهر فيه بين فينة وأخرى مجارٍ للمياه كما لون الخيط الأبيض على الثوب، وتتثنى عند المنعرجات كما الحسناء في ليلة زفافها تأبى أن تغادر بيت أبيها، ولكن قدرها يدفع رجليها إلى الأمام كمن يسير على الوحل. وطول الطريق أتاح للكثيرين براحاً للتأمل ومحادثة الذات، ولعل بعضنا خرج من تلك الحالة ودعا لمقارنة المشقة بفائدة الرحلة المرتجاة من حيث دسامة المادة الصحفية وتأثيرها على الحاضر والمستقبل.. وبذلك فتح باب كبير للجدل.. وعلى كل حال فقد حدثنا أحد مرافقينا الأثيوبيين بعد تجاوزنا عدداً من نقاط التفتيش أننا على بعد دقائق من بوابة العبور الرئيسية للمنطقة المقصودة، التي أخبرنا توقف البص والعربة الـ(تويوتا) التابعة لوزارة السدود ومصادر المياه الأثيوبية المرافقة لنا عند اعتراض الحبل المتعارض على الطريق لهما بأننا بلغنا مقصدنا.. وحينها بدا الانزعاج والتوتر على وجه أحد الأثيوبيين بسبب أن أفراد نقطة العبور طلبوا أوراق الإذن الممنوح من رئاسة الوزارة للعربة التي كانت على متنها زميلتنا من وكالة السودان للأنباء «معزة» والتي أعياها الطريق.
الهاتف جاء بالفرج، فقد سمح للعربتين بالعبور والاستمرار في الطريق إلى (أبّاي).. نعم، الطريق إلى (سد النهضة العظيم) كما ينادونه هنا ويطلقون مسمى (أبّاي) على النيل الأزرق.. توقفنا عند المدخل الذي يبعد بضعة كيلومترات عن جسم السد عند نقطة تفتيش أخرى، وظهر ضابط برتبة النقيب وألقى بالتحية العسكرية من الأسفل على سائق البص الذي رد بمثلها رغم أنه يرتدي الزي المدني.. وبعد لحظات وجدنا أن عربة كانت تنتظرنا لترشدنا إلى حيث المكان المقصود.. حينها تجاوزنا الزمن المقرر لإفطار رمضان بوقت غير قصير، وتوقفت العربات فجأة وساد الصمت الذي كسره صوت أحد الزملاء محتجاً على الوقوف، فأخبرنا بأن مدير المشروع سيأتي لاستقبالكم قبل دخولكم إلى صالة الطعام، ولعل بعضنا تمنى أن يستمر السير إلى الأمام لنقطع مسافة (20) كيلومتراً فقط، وهي المسافة التي تكفل لنا أن نكون داخل السودان من على الحدود الأثيوبية، حيث منطقتي الكرمك السودانية والأثيوبية.
{ شرح تفصيلي
بوابة التفتيش التي وضعت في مكان لا يسمح لأحد بالدخول إلى المكان إلا عبرها، بمجرد تجاوزنا لها اختلفت معالم المكان وتبدل صوت احتكاك الإطارات مع الحجارة الصغيرة وحفر الطريق وحل محله صوت الآليات والرافعات ونقل الصخور الضخمة.. وصلنا (أبّاي) وجسم السد تفصله قناته الرئيسية بمياه النيل كما شكل الإنسان الذي يلوح بكلتا يديه ترحيباً بضيوفه.. عفواً لم أشأ أن أسأل أحد الزملاء عن ما حدث بعد تقسيم الحاضرين على الغرف، فجميعهم لم يتابع ما يدور في الخارج إلا عند فجر اليوم التالي عندما تحرك المستشار الإعلامي للسفارة الأثيوبية في السودان «خالد ثابت» باحثاً عن من لم يخرج من غرفته لـ(السحور)، وحينها أُخطرنا بأن مدير مشروع السد الأثيوبي سيقدم بعد ثلاث ساعات شرحاً تفصيلياً عن مراحل بناء السد ومستقبله، وتليه زيارات إلى جسم السد والمنطقة المحيطة به.
{ تجهيز البحيرة
الجانب الآخر من الكوب يحدث عن نهضة ضخمة تسير بهدوء وصمت هنا في أثيوبيا، وحتى النظر للطرق غير المسفلتة نفسها يعطي مؤشرات على أن مستقبل هذا البلد والمناطق التي عبرناها كبير، وأن مشروع السد ستصحبه مشروعات أخرى على رأسها تحول المنطقة (منطقة بني شنقول) التي يقع فيها السد إلى أكبر منطقة سياحية في العالم حسب ما حدثنا مدير مشروع سد النهضة «سيمنغوي بكلي»، ويبدو واضحاً للعيان منذ الوهلة الأولى أن الجميع يعملون دون تمييز أو جندرة، فالمرأة تقود الرافعات وترحل الضخم من الصخور، وتتفوق على الرجل في قطع الأشجار يدوياً وترحيلها لتجهيز بحيرة السد، التي علمنا أنها تتطلب إزالة آلاف الكيلومترات حتى تصبح صالحة وتؤمن المخاوف من تلوث مياه النيل نتيجة انبعاث غاز الميثان.
{ شرح فني
جلس الصحفيون على جانبي منضدة توسطتها شاشة عرض، وجلس إلى يسار المنضدة مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» وأمامه بضعة ميكروفونات تمثل أجهزة إعلامية، وجهاز (لابتوب) ومؤشر يحمله على يده، وبدأ مرحباً بحضور الوفد السوداني ومعتذراً عن المشقة التي واجهتهم حتى وصولهم إلى (أبّاي)، وذهب إلى تقديم الشركات العاملة في المشروع، وهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات، فرنسية وإيطالية ووطنية أثيوبية.
وشاهدنا أن العمل في بناء السد الأثيوبي، الذي ينتظر أن يولد (6000) ميغاواط من الكهرباء، يمضي بوتيرة واحدة ليل نهار رغم معارضة مصر التي تتخوف من تآكل نصيبها التاريخي في مياه النيل، وعلى طول الطريق يبدو واضحاً أن مساحة المشروع التي أخبرنا أنها تصل إلى (1780) كيلومتراً في المنطقة من الغابات والجبال لا تخلو من البشر، حيث يُلحظ وجود أشخاص في أماكن لا يتخيل أن توجد فيها حياة.
مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» قال إن السد عند اكتماله سيكون ضمن أكبر (10) سدود على مستوى العالم والأول في الشرق الأوسط وأفريقيا، ستصل الكهرباء منه على المدى الإستراتيجي حتى أوروبا، وفي المرحلة الأولى إلى السودان وكينيا ومصر وجيبوتي والعديد من البلدان الأخرى. كما أن الرجل الذي أدار سدين سابقين داخل أثيوبيا وشارك في الثالث، يبدو واثقاً من نفسه ومن قدرة حكومته على إكمال المشروع، حيث قال إن الدراسات والخطط التي وضعت أكدت سلامة المشروع.
{ هيكل السد
الشرح على شاشة الـ(بروجيكتر) وضّح الهيكل الكامل لجسم السد الذي يبلغ عمقه (512) متراً تم تجهيز (466) متراً منها. والجسم الأساسي مع البحيرة تم إجراء اختبارات عليه منذ مرحلة الخطط وحتى بداية التنفيذ حيث أخبرنا «سيمنغوي بكلي» بأن السد يمتد في مساحة تصل إلى (1780) كيلومتراً، وأن الجسم الرئيسي يتكون من قناة الوسط وجانبين على اليمين ينتظر أن يولد (3750) كيلواط، بينما ينتظر أن يولد يسار السد (2250) كيلواط لتتجمع الكهرباء من الجانبين مع الوسط في الجسم الأساسي في (6) وحدات عاملة للتوليد، إلى جانب وجود (60) مضخة تعمل على سحب المياه لتتدفق إلى المولدات (التوربينات) العاملة في أسفل جسم السد، وأشار إلى وجود (10) بوابات في الجانب الأيمن للسد، و(4) أخرى في الجسم الرئيسي، وقال «سيمنغوي بكلي» إن الكهرباء يتم سحبها إلى غرفة التحكم وتستمر المياه في الجريان والانسياب بشكل طبيعي دون أن تتوقف أو يتم حجزها، كما أن «سيمنغوي بكلي» أشار إلى وجود مخرج للطوارئ في جسم السد لتأمين شحن الطاقة بصورة آمنة وتفريغ المياه في حال ارتفاع المنسوب، وأضاف: (هناك ثلاث مخارج أخرى على الجانب اليسار من جسم السد الأساسي)، وقال إن بحيرة السد تمتد في مساحة تصل إلى (640) كيلومتراً بارتفاع يبلغ (145) متراً في الجسم الأساسي، بعمق طوله (1700) متر.
وذهب «سيمنغوي بكلي» إلى أنهم الآن في مرحلة وضع الأساس للسد بغرض إكمال الجسم الأساسي للسد والجوانب الفنية، وأن المرحلة التالية ستكون للاستخدام، وأضاف: (لدينا خبرات وطنية ومواد محلية ملائمة للعمل وأيدٍ عاملة)، والرجل ظل يردد أن المواد المحلية والتربة خضعت لاختبارات معملية في معامل متخصصة وعلى مستوى عالمي، وأن تلك التجارب مستمرة في كل المراحل.
{ تحويل مجرى
القضية التي صعّدت من المخاوف المصرية في المرحلة السابقة من مراحل بناء السد، تمثلت في الإعلان المفاجئ للجانب الأثيوبي عن عزمه تحويل مجرى النيل الأزرق ليتمكن من بناء السد، وبزيارتنا هذه وقفنا على المنطقة التي تحول منها مجرى النهر، حيث أخبرنا مدير المشروع أن التحويل تم في (28) ميلاً بغرض تمكين القناة الرئيسية من العمل والتمكن من بناء أطراف السد ومن ثم إعادة جريان النهر إلى شكله الطبيعي، وقال إن المرحلة القادمة سيتم فيها فتح المسار الحالي وإغلاق النيل من الجانب الآخر (يمين السد) حتى يتم البناء.
{ الهروب من الأسئلة الساخنة
العديد من الأسئلة الأساسية تم طرحها على مدير المشروع، لكنه تعامل بطريقتين، إما الرد بدبلوماسية لا تمنحك الإجابة ولا تجعله يرفض ذلك صراحة، وظل الزملاء يتبادلون طرح الأسئلة بطرق مختلفة، ولكن الرجل أظهر مقدرات سياسية فائقة في الهروب من الأسئلة، وعند الضغط عليه يؤجل السؤال ويقول: (سأجيب عليه ولكن الآن دعوني أخبركم بكذا وكذا)، وبذلك يكون هرب مرة أخرى، ولكن في إحدى المرات تمت محاصرته بسؤال عن وجود الحركات المسلحة السودانية في ولاية النيل الأزرق السودانية التي تبعد (20) كيلومتراً من جسم السد، فرد بالقول: (أنتم أتيتم من بحر دار إلى هنا في مسافة تزيد عن الأربعمائة كيلومتر وستعودون بذات الطريق حتى أصوصا.. هل قابلتكم مشاكل من ذلك القبيل؟).. وبإجابته تلك أراد أن يقول إن تلك مشكلتكم الداخلية كسودانيين، ولكن عندما أُحكم عليه الحصار قال إن الأسئلة السياسية معني بها المستوى الوزاري الذي ستقابلونه في أديس أبابا، وإن دوره وتفويضه ينحصر في الجانب الفني فقط.. وأيضاً من الأسئلة التي هرب منها الرجل تحديد الفترة التي ستمتلئ فيها بحيرة السد، ومصادر التمويل والتكلفة الكلية لبناء السد، وغيرها من الأسئلة.
{ فوائد للسودان
مدير المشروع الأثيوبي «سيمنغوي بكلي» حدثنا كثيراً وفي مواقع مختلفة على مدار اليوم ونصف اليوم، الفترة التي قضيناها معهم، بعض الحديث قاله صراحة، والآخر تلميحاً إلى أن السد لا تملكه أثيوبيا وحدها وإنما يشاركها فيه السودان بحكم الجيرة والمصالح المشتركة، وقال صراحة إن السودان سيحصل على (2600) ميغاواط من كهرباء السد، إلى جانب حجز الطمي الذي يمكّن السودان من استخدام الماء بشكل أمثل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق