مدينة الحديد والنار (عطبرة) أو كما يحلو لأهلها (أتبرا)، كانت واحدة من النقاط التي شكلت تاريخ السودان بما قدمته من مجد نضالي واسع حيث أكبر النقابات- نقابة سكك حديد السودان- وقد اختارها الإنجليز لتكون رئاسة للسكة الحديد.. بدأ تشكيل (أتبرا) كمدينة مع بداية تشييد خط السكك الحديدية من قبل القوات البريطانية المصرية عند غزوها للسودان لاستخدامه في أغراض شتى تخدم أهدافها، ولعبت دوراً حيوياً في حركة مسير القطارات، حد أن كثيراً من الأغاني ارتبطت بها، كما رددت فرقة (عقد الجلاد): (لما القطار صفر وقف بهرتني صورة عطبرة.. دي محطة الوطن الكبير كانت تضج متحضرة..).. وبالفعل فقد ملأت عطبرة التاريخ ضجيجاً وهي تصرخ في وجه الاستعمار، ولعب عمال السكة الحديد دوراً بارزاً في مناهضته، ومن صلبها خرج عدد من أبناء السودان الحادبين على مصلحته، فكانت لها اليد الطولى في طرد الغرباء إلى بلدهم، وقدمت شهداء ضمتهم مقبرة أطلق عليها (مقبرة الشهداء) وصارت شاهداً وواحداً من الآثار فيها، وحمل الشارع الذي استشهدوا فيه اسمهم، فضلاً عن رجال برزوا في النضال، منهم على سبيل المثال المناضل «عبد القادر سالم» الذي برع في تلقف كرة (البمبان) وردها في وجه الأعداء بمهارة يحسد عليها، وغيره كُثر.
ولأن مدينة الحديد والنار (عطبرة) أصبحت منارة السكة الحديد وأحد معاقل الوطنية، فقد أنشئ فيها (متحف السكة الحديد) الذي جمع كل المقتنيات المتعلقة بفترة الاستعمار الثنائي على السودان ومن بينها الوابورات التي دخلوا بها.. ومن المفارقات أن شبكة السكة الحديد التي مدوها في البلاد، كانت البوابة التي خرجوا منها.
مدير المتحف «مصطفى أحمد فضل» يحدثنا عن تاريخ تلك الفترة خلال هذه المساحة.
} أهداف مزدوجة
يقول مدير المتحف «مصطفى أحمد» إن إنشاء السكة الحديد في السودان كان فكرة اللورد «كتشنر» لتسهيل مهمة الجيش الغازي سنة 1897م منطلقة من وادي حلفا، ومرت بعدد من المراحل إلى أن وصل الخط الخرطوم في سنة 1899م بعد معركة كرري. وعلى طول هذه المسافة كانت هناك نقاط في المدن تزود القطارات بالمؤن والغذاء، لكن وعند وصول الخط إلى مدينة عطبرة شقت الحملة طريقها بواسطة البواخر النيلية. وبعد معركة (كرري) في 2 سبتمبر 1898م والقضاء على دولة المهدية وبداية الحكم الثنائي على السودان، وبعد استقرارهم مباشرة، قام الإنجليز بإنشاء كوبري خشبي معقد فيعطبرة، ومثله في بحري التي وصلها خط السكة الحديد في ديسمبر من العام 1899م بغرض ضمان استمرار تمويل الحملة أثناء تقدمها نحو أم درمان، ما يشي بأن السكة الحديد لعبت دوراً أساسياً في نجاح الحملة. وبعد انتهاء معركة (كرري) واستعادة السودان لصالح التاج البريطاني، واستقرار الحكم الثنائي، تحولت السكة الحديد من الأهداف الحربية إلى أغراض اقتصادية بحتة بنقل موارد السودان لخدمة الاستعمار ونهب ثروات البلاد التي تصدر لبريطانيا ثم تعاد مصنعة وتباع للسودانيين، كاهتمامهم بزراعة القطن ثم تصديره إلى بريطانيا، حيث يصنع في مصانع (لانكشير) ويباع للسودانيين نسيجاً، فالأمر في ظاهره خدمة للاقتصاد لكنه في الحقيقة لخدمة أجندتهم. وفي الفترة من 1814 - 1818م إبان الحرب العالمية الأولى، تحولت السكة الحديد مرة أخرى إلى أداة حربية بتمويل قوات الحلفاء (بريطانيا والمستعمرات)، وبعد انتهاء الحرب رجعت إلى الأهداف الاقتصادية.
} مراحل إنشاء السكة الحديد
وإمعاناً في ترسيخ الاقتصاد وتسخيره لخدمة أغراض الاستعمار، حسبما قال مدير المتحف، ساهمت السكة الحديد في إنشاء مشروع الجزيرة سنة 1925م إلى جانب خزان سنار، كما ساهمت في إنشاء المدن الكبيرة وربطت مناطق الإنتاج بمناطق التصدير، ومنها خط (عطبرة – سواكن) في 1904م، ومحطة (سلوم إلى بورسودان) في 1905م ما أودى بسواكن وتحولت من ميناء إلى مدينة أثرية، وفي نفس الفترة أنشئت (نمرة 10 كريمة) وهي محطة شمال أبي حمد، ومن خلالها مُدّ خط إلى كريمة، وفي العام 1909م أنشئ خط (الخرطوم – سنار)، وفي نفس العام أوصل إلى كوستي، وقبله الكوبري متزامناً مع كوبري الحديد بحري بديلاً لذاك الخشبي المعقود، وبسببه أصبحت مدينة كبيرة وتمتعت بحراك اقتصادي.. وفي العام ذاته امتد الخط إلى الأبيض وانتهى في 1911م.. بعدها توقفوا حتى العام 1954م، وقام بعدها الإنجليز بمدّ الخط من سنار إلى الروصيرص، ومن ثم دخلت محاصيل زراعية جديدة، وخط آخر كان قيد التوصيل عندما حدث الاستقلال أكملته الحكومة الوطنية الأولى في عهد «الأزهري» وهو من عرديبة إلى أبي زبد وأقيم احتفال من أجله، وقبل أن يتقدم حدث انقلاب (عبود) 17 نوفمبر 1958م فأوصله من أبي زبد إلى بابنوسة 1959م، وفي نفس الفترة امتد إلى نيالا.. وفي العام 1962م امتد خطبابنوسة إلى الجنوب لبحر الغزال ومنها إلى محطة واو.
} بوابة الملكة «فكتوريا» ووابور «كتشنر»
يضم متحف السكة الحديد بين جنباته عدداً من بقايا وآثار عهد الاستعمار، منها عدد من الوابورت من بينها الوابور الذي دخل به «كتشنر» السودان، فضلاً عن مجموعة من الصور الفوتوغرافية التاريخية التي التقطتها كاميرا المصور والمخرج «جاد الله جبارة» الذي وثق لكل فعاليات الاستقلال، بعضها بمتحف القصر الجمهوري، ومنها صورة الخط الأول للإنجليز عند دخولهم السودان وصورة خروجهم في 1955م، إلى جانب بوابة الملكة «فكتوريا».
} بوابة فكتوريا – محطة.. (بيويو كوان) تاريخ مختلف
حدثنا الأستاذ «مصطفى» عن هذه البوابة التاريخية بقوله: (هي البوابة الرئيسية لمحطة «الخرطوم القديمة»، حالياً محطة «بيويوكوان» التي تقع عند شارع الطابية بجوار النصب التذكاري للجندي المجهول الذي تمت إزالته)، وطفق يشرح بأن النصب بروتوكول عالمي متعارف عليه وقتها في أية دولة، توضع عليه أكاليل الورود عند مرور موكب رسمي. وفي مدخل (بيويوكوان)، وهو حوش السكة الحديد آنذاك، عند شجرة النيم قبالة العمود الذي تعلق عليه تلك الساعة المعروفة، كانت تنتصب بوابة الملكة «فكتوريا» التي جيء بها من بريطانيا في العام 1902م. وزاد بقوله: (معروف أن الملكة «فكتوريا» هي التي عاصرت الحملة البريطانية، وبخلاف البوابة هناك عدد من الأماكن باسمها منها شارع فكتوريا «القصر» حالياً، وتم تغييره في عهد «عبود» أسوة ببعض التغييرات المصاحبة لحكومته، ومنها العملة الإنجليزية التي كانت سارية حتى العام 1958م، أيضاً فندق فكتوريا الكائن حتى الآن.
} هؤلاء مروا من هنا
وعن (بوابة فكتوريا)، يقول «مصطفى» إنه وبجانب كون البوابة معلماً تاريخياً وترتبط بشخصية مهمة، فقد تميزت أيضاً بمرور كل رؤساء السودان خلال الحقب المختلفة عبرها من «الأزهري» وحتى «البشير»، وذلك عند زيارته لعطبرة بالقطار في بداية حكومة الإنقاذ.. ومن رؤساء الدول رئيس يوغسلافيا سابقاً «تيتو»، رئيس الجمهورية العربية المتحدة وقتها «جمال عبد الناصر»، رئيس الهند «نهرو»، وقد كان هؤلاء يستهويهم ركوب القطارات السياحية والتجول بها في مدن السودان عبر البوابة، وعندما عبرها «الأزهري» في طريقة إلى مدينة عطبرة كان برفقة رئيس جمهورية زامبيا «كاوندا»، واستثمر الأخير الزيارة وقام بشراء عدد من الوابورات مستصحباً معه مهندسين وعمالاً، وبموجب ذلك تم إنشاء سكك حديد زامبيا. وكانت هذه البوابة شاهداً على مأساة بطل ثورة اللواء الأبيض في 1924م «علي عبد اللطيف» عقب اعتقاله والإفراج عنه من منفاه في مدينة واو بموجب معاهدة بين مصر وبريطانيا 1936م وتم العفو عن جميع المعتقلين، لكن «عبد اللطيف» لم يستفد من هذا العفو لأنه كان قد أصيب بمرض نفسي، وتم نقله عبر (بوابة فكتوريا) بالسكة الحديد إلى وادي حلفا ومنها بالباخرة لتلقي العلاج في مصر التي توفي فيها.
} شتان ما بينهما
دخلت قوات الاحتلال إلى السودان منتفخة الأوداج، وزحفت رويداً رويداً عبر السكة الحديد، ومشطت أرضه من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، واستباحت ممتلكاته، ثم خرجت منه بعد إعلان الاستقلال وهي تجرجر أذيالها، يحمل جنودها متاعهم ويمشون على استحياء نحو البوابة (المحطة القديمة) التي دخلوا بها، ولكن شتان ما بين الدخول والخروج، فقد تدافعوا مصطفين نحو محطة القطار بعد تحركهم في عدد من الكتائب من معسكر الجيش الإنجليزي (القيادة العامة للقوات المسلحة حالياً، أما المصريون فقد توافدوا في طوابير (مارشات) وقد كانت ثكناتهم في (ميدان طلعت فريد) حالياً. ثم امتطوا صهوة الوابورات والقطارات وهم يحملون متاعهم، وألقوا نظرة الوداع الأخيرة على (صنيعهم) وخرجوا بغير عودة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق