كامل عبد الماجد
يكتظ بريدي الالكتروني بالمادحين والقادحين لمقالاتي. المادحون جلهم من أبناء الجيل الذي عاش ما اكتب من ذكريات ولبعضهم عشق مهول للماضي الجميل ويعتبرون مقالاتي اجترارا لذلك الماضي ومنهم من يدهشني بإضافات ثرة لمقالي بعد صدوره ومن أبرز هؤلاء صديقي الطبيب الاختصاصي الشهير يعقوب عبد الماجد وهو بلا شك الأول في السودان في معرفة كلما يتعلق بالفن والشعر القديم بالسودان وربما وقف معه في صف واحد الاصدقاء عوض بابكر والدكشنري. أما القادحون فيأخذون على مقلاتى بتركيزها على الذكريات والماضي ويقولون إننا أسرى ذلك الماضي البعيد واننا وقفنا عنده ولم نواكب الزمان الجديد والرد عندي لهؤلاء أن رياح العولمة لم تغادر في الدنيا أحدا ونحن ضمن من هبت عليهم وحذقوا ما أتت به من جديد إلا ان في اجترار زماننا الجميل حنين يسعدنا ويزيل عنا العناء كلما ادلهمت بنا الخطوب الجديدة.
والسكة حديد التي سعدنا بحضور أيام بريقها الجميل كانت عالما قائما بذاته وحدت أجزاء بلادنا ونقلت الناس من إقليم لإقليم وعرفت أهل السودان بفجاح بلدهم المترامية الأطراف وما كل ماتركه البريطانيون شر مستطير فماذا فعلنا بالله بها وبمشروع الجزيرة والبوستة والنقل المكانيكي والنقل النهري والمخازن والمهمات والخدمة المدنية. أما كان بالامكان تحديث وتطوير هذه المؤسسات. ألم تقام هذه المؤسسات لأهمية بالغة استوجبت قيامها.. كيف حافظت عليها وطورتها المستعمرات البريطانية ومن بينها على سبيل المثال الهند في حين عملنا فيها ما يعمل الثور في مستودع الخزف.
في حقل بهيج بمدينة بورتسودان في صباح السبت 27يناير عام1906م وقف حاكم عام السودان ميجر جنرال ونجت وقد وصل من القاهرة اللورد كرومر قنصل دولة بريطانية يصحبه وفد رفيع لتدشين وصول خط السكة حديد للبحر الاحمر وقف الحاكم العام وألقى خطابا تاريخيا قال فيه:
"مولاي للورد يسرني في هذا اليوم السعيد الذي عم به الابتهاج أن ارحب بفخامتكم في السودان بالاصالة عن نفسى وبالنيابة عن ضباط وموظفى حكومة وعلماء هذه البلاد ومشائخها وأعيانها واهاليها. إن فتح السكة حديد التي تصل البحر الأحمر بالنيل على يد فخامتكم عن باب إعطاء القوس باريها لأنكم تنوبون في هذه الحفلة عن جلالة الملك ادوارد السابع وسمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر فقد وضعتم نصب عينيكم منذ فتح السودان ضرورة إنشاء سكة تصل هذه البلاد بسائر العالم فتكون أقصر من سكة النيل وأقل نفقة منها حرصا على ترقية وسعادة السودان وتوفير أسباب الرخاء له وقد علم الخاص والعام انكم لم تألوا جهدا في إدراك هذا الأمر لذا يسرني أن أهنئ فخامتكم اليوم بالنجاح الذي كلل مساعيكم".
ومما يذكر أنه بوصول اللورد كرومر للسرادق الكبير الذي نصب للحفل تم خفض العلمين البريطاني والمصري إعلانا للبارجة "ديانا" بأن تطلق 21 مدفعا وقد أرسلت خصيصا لهذا الغرض ثم فتش اللورد قرقول الشرف وكانت موسيقى البيادة السودانية تصدح بأنغام شجية أثناء التفتيش ثم أزاح اللورد الستار عن لوحة الافتتاح إيذانا ببدء تحرك القطارات.
هكذا كان يحتفل البريطانيون بالتنمية في السودان ومما لا شك فيه أنهم استفادوا من تلك التنمية غير أن بلادنا استفادت أيضا ووجدت بعد استقلالها قواعد ثابتة للنماء. والسكة حديد بجانب آثارها الاقتصادية والاجتماعية كانت أيضا أهم مرتكزات العمل السياسي بالبلاد ففي ساحتها العامرة نشأ العمل النقابي وتطور وقد نجح العمال في عام1946م في تكوين هيئة شؤون العمال، أول تنظيم نقابي بالبلاد وذلك بمدينة عطبرة وفي الفترة مابين 1946-1955 ظل التنظيم النقابي يسهم بجانب الحركة الوطنية ممثلة في الأحزاب في النضال الوطني ومسيرة البلاد نحو الحكم الذاتي، في عام1953م، ثم الاستقلال في مطلع 1956م. ثم نقف قليلا في أن السكة حديد أرخص وسائل النقل البري ونسأل عن تكلفة البصات السفرية والحافلات التي اكتظت بها مدن السودان.. تكلفة الشراء وقطع الغيار بالعملات الصعبة وتقارنها بتكلفة السكة حديد.. أيهما أقل تكلفة لبلادنا التي تتصاعد فيها قيمة العملات الصعبة كل صباح؟
ذكريات أهل السودان الذين حضروا مجد السكة حديد ببلادنا تظل وافرة وثرة فقد اثرى قطار الركاب الحياة الاجتماعية والثقافية وألهم الشعر والمغنين وسارت بابداعاتهم الركبان.. ولا تزال قصيدة "قطار الغرب" التي صور فيها الشاعر الكبير محمد المكي ابراهيم رحلة القطار من الأبيض الى الخرطوم مرورا بالمحطات في أذهان الناس:
(هذه ليست إحدى مدن السودان
من أين لها هذي الالوان
من أين لها هذا الطول التياه
لاشك قطار الغرب الشائخ تاه
وسألنا قيل لنا الخرطوم
هذى عاصمة القطر على ضفات النيل تعوم
عربات
أضواء
وعمارات
وحياة الناس سباق تحت الصوت
ونزلنا في الخرطوم بلا استقبال
فتذكرت الحشد المتدافع في إحدى السندات
برتينتهم وقفوا في وجه الريح
واطل من الشباك فتى القرية
قد عاد افنديا ابن القرية
وإنهالت بالاحضان تهانيهم"
وغير محمد المكي صرح الكثيرون بأغانى القطار على شاكلة "القطر القطر نويت السفر" "والقطار المرّ مرّ فيه حبيبي" و"قطار الشوق متين ترحل تودينا نشوف بلدا حنان أهله" و"في القطار أنا قلبي طار" وغيرها وغيرها. ويقول د. عثمان السيد مؤلف كتاب "أم المصالح- سكك حديد السودان السيرة والمسيرة 1900-1970) "أطوال الخطوط الحديدية ماهي إلا مقياس للمدينة والحضارة وآية ذلك أن السكة حديد حملت في ركايبها رسالة العمران والمدينة والتقدم الاقتصادي كما مثلث مدرسة في حق الإدارة في مجتمع كانت البداوة من أهم خصائصه".
قد جاء في كتاب الدكتور عثمان السيد وهو كتاب مدهش دقيق الاحصاء أن "عدد الذين ركبوا القطار بين الأعوام 1918-1922 بعد اكتمال المرحلة الأولى لبناء السكة حديد بلغوا 072،479 مسافرا وفي الفترة من 1928- 1932م، وبعد اكتمال خط الدوران هيا- كسلا- القضارف- سنار بلغ عدد المسافرين 067،574 وبعد اكتمال بناء خط سنار الروصيرص في عام1954م قفز عدد ركاب القطارات الى 866،778،2 وبعد وصول الخط الى نيالا عام1959م بلغ عدد من ركبوا القطارات600،351،3 مسافرا".. وبالطبع لم يكن تعداد أهل السودان حتى 1959 يزيد على ال15مليون نسمة وهذا يعنى أن أكثر خُمس السكان كانوا يستمتعون في تسفارهم داخل بلادهم بركوب القطار فتأمل بالله قدرة القطار على خدمة الناس.
مع تحياتي..
صحيفة السوداني
والسكة حديد التي سعدنا بحضور أيام بريقها الجميل كانت عالما قائما بذاته وحدت أجزاء بلادنا ونقلت الناس من إقليم لإقليم وعرفت أهل السودان بفجاح بلدهم المترامية الأطراف وما كل ماتركه البريطانيون شر مستطير فماذا فعلنا بالله بها وبمشروع الجزيرة والبوستة والنقل المكانيكي والنقل النهري والمخازن والمهمات والخدمة المدنية. أما كان بالامكان تحديث وتطوير هذه المؤسسات. ألم تقام هذه المؤسسات لأهمية بالغة استوجبت قيامها.. كيف حافظت عليها وطورتها المستعمرات البريطانية ومن بينها على سبيل المثال الهند في حين عملنا فيها ما يعمل الثور في مستودع الخزف.
في حقل بهيج بمدينة بورتسودان في صباح السبت 27يناير عام1906م وقف حاكم عام السودان ميجر جنرال ونجت وقد وصل من القاهرة اللورد كرومر قنصل دولة بريطانية يصحبه وفد رفيع لتدشين وصول خط السكة حديد للبحر الاحمر وقف الحاكم العام وألقى خطابا تاريخيا قال فيه:
"مولاي للورد يسرني في هذا اليوم السعيد الذي عم به الابتهاج أن ارحب بفخامتكم في السودان بالاصالة عن نفسى وبالنيابة عن ضباط وموظفى حكومة وعلماء هذه البلاد ومشائخها وأعيانها واهاليها. إن فتح السكة حديد التي تصل البحر الأحمر بالنيل على يد فخامتكم عن باب إعطاء القوس باريها لأنكم تنوبون في هذه الحفلة عن جلالة الملك ادوارد السابع وسمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر فقد وضعتم نصب عينيكم منذ فتح السودان ضرورة إنشاء سكة تصل هذه البلاد بسائر العالم فتكون أقصر من سكة النيل وأقل نفقة منها حرصا على ترقية وسعادة السودان وتوفير أسباب الرخاء له وقد علم الخاص والعام انكم لم تألوا جهدا في إدراك هذا الأمر لذا يسرني أن أهنئ فخامتكم اليوم بالنجاح الذي كلل مساعيكم".
ومما يذكر أنه بوصول اللورد كرومر للسرادق الكبير الذي نصب للحفل تم خفض العلمين البريطاني والمصري إعلانا للبارجة "ديانا" بأن تطلق 21 مدفعا وقد أرسلت خصيصا لهذا الغرض ثم فتش اللورد قرقول الشرف وكانت موسيقى البيادة السودانية تصدح بأنغام شجية أثناء التفتيش ثم أزاح اللورد الستار عن لوحة الافتتاح إيذانا ببدء تحرك القطارات.
هكذا كان يحتفل البريطانيون بالتنمية في السودان ومما لا شك فيه أنهم استفادوا من تلك التنمية غير أن بلادنا استفادت أيضا ووجدت بعد استقلالها قواعد ثابتة للنماء. والسكة حديد بجانب آثارها الاقتصادية والاجتماعية كانت أيضا أهم مرتكزات العمل السياسي بالبلاد ففي ساحتها العامرة نشأ العمل النقابي وتطور وقد نجح العمال في عام1946م في تكوين هيئة شؤون العمال، أول تنظيم نقابي بالبلاد وذلك بمدينة عطبرة وفي الفترة مابين 1946-1955 ظل التنظيم النقابي يسهم بجانب الحركة الوطنية ممثلة في الأحزاب في النضال الوطني ومسيرة البلاد نحو الحكم الذاتي، في عام1953م، ثم الاستقلال في مطلع 1956م. ثم نقف قليلا في أن السكة حديد أرخص وسائل النقل البري ونسأل عن تكلفة البصات السفرية والحافلات التي اكتظت بها مدن السودان.. تكلفة الشراء وقطع الغيار بالعملات الصعبة وتقارنها بتكلفة السكة حديد.. أيهما أقل تكلفة لبلادنا التي تتصاعد فيها قيمة العملات الصعبة كل صباح؟
ذكريات أهل السودان الذين حضروا مجد السكة حديد ببلادنا تظل وافرة وثرة فقد اثرى قطار الركاب الحياة الاجتماعية والثقافية وألهم الشعر والمغنين وسارت بابداعاتهم الركبان.. ولا تزال قصيدة "قطار الغرب" التي صور فيها الشاعر الكبير محمد المكي ابراهيم رحلة القطار من الأبيض الى الخرطوم مرورا بالمحطات في أذهان الناس:
(هذه ليست إحدى مدن السودان
من أين لها هذي الالوان
من أين لها هذا الطول التياه
لاشك قطار الغرب الشائخ تاه
وسألنا قيل لنا الخرطوم
هذى عاصمة القطر على ضفات النيل تعوم
عربات
أضواء
وعمارات
وحياة الناس سباق تحت الصوت
ونزلنا في الخرطوم بلا استقبال
فتذكرت الحشد المتدافع في إحدى السندات
برتينتهم وقفوا في وجه الريح
واطل من الشباك فتى القرية
قد عاد افنديا ابن القرية
وإنهالت بالاحضان تهانيهم"
وغير محمد المكي صرح الكثيرون بأغانى القطار على شاكلة "القطر القطر نويت السفر" "والقطار المرّ مرّ فيه حبيبي" و"قطار الشوق متين ترحل تودينا نشوف بلدا حنان أهله" و"في القطار أنا قلبي طار" وغيرها وغيرها. ويقول د. عثمان السيد مؤلف كتاب "أم المصالح- سكك حديد السودان السيرة والمسيرة 1900-1970) "أطوال الخطوط الحديدية ماهي إلا مقياس للمدينة والحضارة وآية ذلك أن السكة حديد حملت في ركايبها رسالة العمران والمدينة والتقدم الاقتصادي كما مثلث مدرسة في حق الإدارة في مجتمع كانت البداوة من أهم خصائصه".
قد جاء في كتاب الدكتور عثمان السيد وهو كتاب مدهش دقيق الاحصاء أن "عدد الذين ركبوا القطار بين الأعوام 1918-1922 بعد اكتمال المرحلة الأولى لبناء السكة حديد بلغوا 072،479 مسافرا وفي الفترة من 1928- 1932م، وبعد اكتمال خط الدوران هيا- كسلا- القضارف- سنار بلغ عدد المسافرين 067،574 وبعد اكتمال بناء خط سنار الروصيرص في عام1954م قفز عدد ركاب القطارات الى 866،778،2 وبعد وصول الخط الى نيالا عام1959م بلغ عدد من ركبوا القطارات600،351،3 مسافرا".. وبالطبع لم يكن تعداد أهل السودان حتى 1959 يزيد على ال15مليون نسمة وهذا يعنى أن أكثر خُمس السكان كانوا يستمتعون في تسفارهم داخل بلادهم بركوب القطار فتأمل بالله قدرة القطار على خدمة الناس.
مع تحياتي..
صحيفة السوداني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق