د. هاشم حسين بابكر - الانتباهة
في ندوة أقامها مركز دراسات المستقبل كانت السكة حديد حاضرة، حيث تحدّث السيد مدير عام السكة حديد وعن تاريخها الزاهر وحاضرها الضامر، كما تحدث الكثيرون من الخبراء الفنيين والاقتصاديين عن هذا المرفق الإستراتيجي الهام.
السكة حديد كما ذكرت في مقال سابق هي أول مؤسسة نظامية في السودان حيث يبدأ تاريخها منذ العام 1897م، وقد ذكر السيد مدير السكة حديد تاريخاً قبل ذلك التاريخ بكثير راجعاً إلى عهد محمد علي باشا.
السكة حديد بدأت مؤسسة عسكرية خالصة وحتى بعد الاستقلال بدت أو تحولت إلى مؤسسة شبه عسكرية، وحتى أيامنا هذه يتلقى مدير السكة حديد قرقول الشرف حين يقوم بزيارة لمرافقها المختلفة.
حتى العام 1957م كانت السكة حديد تدار بواسطة ضابط بريطاني برتبة بريقادير «عميد» وكانت آخر مؤسسة تطبق عليها السودنة. والسكة حديد في كل العالم إما مؤسسة عسكرية أو شبه عسكرية. وهي في معظم دول العالم تتبع للدولة. والسبب في ذلك الأهمية الإستراتيجية لهذا المرفق فالسكة حديد هي أفضل ناقل للقوات والآليات العسكرية، ولم يكن السودان استثناءً فقد بنيت إستراتيجية النقل العسكري بالكامل على السكة حديد وكفائها!! وللأسف نجد أن الأنظمة العسكرية التي حكمت السودان أكثر من غيرها هي من عملت على تدمير هذا المرفق الإستراتيجي الهام، واستثنى من ذلك نظام المرحوم الفريق إبراهيم عبود الذي عمل على رفع طاقة السكة حديد بل إنه النظام الوحيد الذي أضاف خطوطاً جديدة إلى الشبكة كخط بابنوسة واو ونيالا!!
عدا ذلك فإن نظام المرحوم نميري هو من بدأ عملية التدمير لهذا المرفق وبمفهوم سياسي كما لا أبرئ نقابات السكة حديد من هذا الأمر. فالنقابات تم استخدامها سياسياً سواء من اليمين أو اليسار وكلاهما لم يضع مستقبل السودان نصب عينيه والذي تمثل السكة حديد أهم معاول بناء التنمية فيه.
لكن الضربة القاضية التي تم تسديدها لهذا المرفق بدأها يوسف عبد الفتاح بموافقة النظام حيث تعدى على حرمة السكة حديد وحولها إلى مجرد شارع بدلاً من بناء كبري طائر عبر المحطة.
وفي دراسة أجرتها شركة ألمانية متخصصة ذكرت في تقريرها أن محطة الخرطوم بموقعها الإستراتيجي لا شبيه لها في أوربا إلا في تسع دول في أوربا. أي أن محطة الخرطوم هي من ضمن عشرة محطات في العالم، والتي يمكن توجيه القطارات منها إلى الجهات الأربع دون مشقة!! وهذا ما يؤكد ما كنت أكتبه منذ سنين عددا ولازلت لكن من يسمع الصم البكم. فالسودان بموقعه الجيوبوليتكي يطل على غرب إفريقيا والقرن الإفريقي ومنطقة البحيرات وتتوسط هذه المناطق الإستراتيجية مدينة الخرطوم التي تتوسطها السكة حديد بموقعها الإستراتيجي الذي يمكن أن تدفع أي دولة غنية أنهاراً وبحاراً من الأموال للحصول عليه. كما أن السودان يشاطيء البحر الأحمر بساحل طوله 067 كيلو متر صالح في كثير من شواطئه كمرسى للسفن هذا بالإضافة إلى الأهمية الإستراتيجية التي يمثلها البحر الأحمر في العالم. وكما ذكرت أن السكة حديد مرفق إستراتيجي هام عسكرياً ومدنياً فهو بالإضافة إلى ذلك مرفق له الأثر الفعال اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً. فنمو الاقتصاد يعني الاستقرار السياسي والأمني بالإضافة للاستقرار الاجتماعي والثقافي فكل هذه المفاهيم مرتبطة ببعضها البعض.
تقول النظرية الأمنية إن الأمن القومي لأي بلد يُبحث عنه خارج الحدود، والبحث الخاطئ عن الأمن داخل الحدود يفقد الدولة تلك الحدود. كيف يمكن تطبيق هذه النظرية عملياً هل بالتسلح؟ كلا.. هل بنشر الأساطيل وانشاء القواعد في أرجاء الدنيا..؟ كلا.. هذا ما تفعله أمريكا وصباح كل يوم تضيف رعباً جديداً على رعبها وقد أثر هذا على اقتصاد كل العالم وليس أمريكا فحسب.
إن الأمن القومي يبحث عنه خارج الحدود يربط دول الجوار اقتصادياً وبالتالي ينمو سياسياً واجتماعياً وثقافياً. ووسيلة السودان لتحقيق وتطبيق نظرية الأمن هي السكة حديد التي يمكن أن تربط كل دول الجوار خاصة تلك التي ليس لها منفذ بحري، فالخط الحديدي الذي يدخل في هذه الدول هو صمام الأمان والأمن للسودان حيث لن تقبل تلك الدول ولن تسمح بأي عمل عدائي ضد السودان لأن هذا العمل سيكون ضدها هي في المقام الأول.. هذا ما تعنيه النظرية الأمنية بالبحث عن الأمن القومي خارج الحدود.
وبتدمير السكة حديد فقد السودان أمنه القومي والذي فقد الأداة الحقيقية لتحقيق ذلك الأمن وهذا التدمير شارك فيه نظام مايو والنقابات ونظام الإنقاذ على يد يوسف عبد الفتاح والمتعافي وأخيراً وليس آخراً عبد الرحمن الخضر، كما شارك فيه وبسلبية مخزية وزراء النقل ومديرو السكة حديد الذين وافقوا بصمتهم على هذا التدمير، وقبل هذا وذاك إدارة البلاد العليا التي باركت كل هذا!!
أرجو خالصاً من الأخ وزير الخارجية أن يكثف جهوده مع منظمة التعاون الإسلامي والتي قبل عدة سنوات افتتحت مؤتمراً بحثت فيه انشاء خط داكار ـ بورتسودان واقترح رئيس الجمهورية أن يكون السودان مقراً لهذا المشروع الحيوي الهام.
خط داكار بورتسودان يمر بالسودان بنسبة أربعين في المائة وهذا يعني أن السودان يمثل أكبر دولة ممر لهذا الخط، ينتهي الخط ببورتسودان ويبدأ أيضاً منها، وربط دول غرب إفريقيا بالسودان له فوائد اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية لا تخطر ببال فالسودان كان منذ الأزل طريق مسلمي غرب إفريقيا لحج بيت الله الحرام، وحتى أن الكثيرين من مسلمي تلك البلاد يعتبرون أن السفر عبر السودان ضمن مناسك الحج فمن السودان كانت كسوة البيت الحرام.
وأرجو من الأخ العزيز علي كرتي أن يوجه جهوده الدبلوماسية لتنفيذ هذا المشروع الهام الذي يعود على البلاد والأمة الإسلامية جمعاء بالخير، خاصة أن المنظمة قد بدأت في التفكير عن بدائل لهذا الخط!!
إن عودة السكة حديد إلى العمل من جديد يخلق فرصاً للعمل أضعاف أضعاف فرص العمل التي تتيحها للعاملين بها، فالكل يجد فرصة عمل خارج نطاق السكة حديد، حتى الأسر في القرى والمدن التي يمر بها الخط الحديدي، فاقتصاد الأسرة ينمو دون تدخل الدولة فالأسرة تقدم للمسافرين منتجاتها اليدوية خاصة التراثية كما تعرض منتجاتها الزراعية والخدمات من مأكل ومشرب. وبتوقف الخط الحديدي اضمحلت الإبداعات اليدوية التراثية بدلاً من أن تتطور بتطور الزمن!!
ونتيجة توقف الخط الحديدي أصيب اقتصاد الأسرة في مقتل فقد اختفت المهارات اليدوية والتراثية ونزحت هذه الأسر إلى المدن الكبرى وامتهنت مهناً هامشية فبدلاً من تنمية الريف حدثت عملية عكسية وهي تريُّف المدن!!
إن السكة حديد ليس مشروعاً يقرره مزاج فرد أو نظام إنما هي مشروع لحياة أمة بأكملها يجمع كل مرتكزات الحياة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ولنا عودة!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق