بناة - القاهرة:
صدر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة كتاب "فقه العمران" العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية من تأليف الدكتور خالد عزب، الكتاب يعد دراسة شاملة للعلاقة بين العمارة الإسلامية والمجتمع الذي صاغ البيئة العمرانية والأنماط المعمارية والدولة التي يحدد المؤلف حدود سلطتها في المجال العمراني.
الكتاب يتكون من ثمانية فصول وملحق لمصطلحات فقه العمران، الفصل الأول خصصه المؤلف لفقه العمران حيث يرى فيه أن فقه العمران ارتبط بإطارين حاكمين له من الناحية الفكرية، الإطار الأول، هو السياسة الشرعية، وهي السياسة التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، سواء كانت تتعلق بالأمور السياسية العامة أو بالعمران مباشرة وكلاهما يترك أثره على العمارة، والإطار الثاني، هو فقه العمارة، والمقصود بفقه العمارة مجموعة القواعد التي ترتبت على حركية العمران نتيجة للاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في العمارة وما ينتج عن ذلك من تساؤلات، يجيب عنها فقهاء المسلمين، مستنبطين أحكام فقهية من خلال علم أصول الفقه.
جاءت تساؤلات المسلمين للفقهاء في هذا المجال، لرغبتهم في تشييد عمائر تتناسب مع قيمهم وحضارتهم، وتراكمت أحكام فقه العمران مع مرور الزمن لتشكل إطار قانوني يلتزم به الحكام قبل المحكومين.
تمثل رؤية السياسة الشرعية للعمران إطار عام حاكم يتناول كليات وليس له علاقة بالجزئيات، فالسياسة الشرعية تهدف إلى إرشاد الحاكم لطرق تحقيق مصالح المحكومين ولذلك يذكر الفقهاء ما يلي "للسلطان سلوك سياسة، وهي الحزم عندنا، ولا تقف على ما نطق به الشرع". وهو الأمر الذي ذكر عنه ابن عقيل الحنفي أنه "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" وعرف ذلك ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق كما يلي: "وظاهر كلامهم هنا أن السياسة: فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بها دليل جزئي".
لذا في المجال العمراني نجد الماوردي يحدد شروط صلاحية أي مكان للأعمار، فيذكر أن منها أن يستوطنها أهلها طلبا للسكون والدعة، حفظ الأموال فيه من استهلاك وإضاعة، التماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة، كما حدد ابن خلدون شروط يجب على الحاكم مراعاتها في اختيار مواضع المدن منها، مراعاة الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء، جلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة، طيب المراعي و مراعاة المزارع، ويفصل ابن ابي الربيع أكثر في تخطيط المدن من قبل الحاكم فيذكر أن من واجباته أن يسوق إليها الماء العذب، أن يقدر طرقها وشوارعها حتى تتناسب ولا تضيق، أن يبني فيها جامعا للصلاة في وسطها، أن يقدر أسواقها بكفايتها لينال السكان حوائجهم، أن يميز بين سكانها بأن لا يجمع أضدادًا أن يوطها بسور مخافة هجوم العداء، أن ينقل إليها من أهل الصنائع بقدر الحاجة لسكانها، ويحلل خالد عزب في كتابه هذه الشروط بالتفصيل.
ويفصل في الإطار الثاني وهو فقه العمران نظرة علماء الشرع للعمارة، فهناك البناء الواجب مثل دور العبادة، والمندوب كالأسواق التي تندب لتوفير السلع للناس، والمباح كالمساكن والبناء المحظور كالبناء على أرض الغير، وذهب خالد عزب إلى أن الفقهاء اعتمدوا في بنائهم لفقه العمارة على الحديث النبوي لا ضرر ولا ضرار، وعلى الآية القرآنية "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وذهب عزب إلى أن الفقهاء اعتمدوا لذلك على القاعدة الفقهية القائمة على جلب المنافع ودفع المفاسد.
والفصل الثاني من الكتاب يتناول دور الفقه في التنظيم والتخطيط العمراني للمدن، حيث قسم عزب الشوارع وأحكامها إلى ثلاث مستويات هي:
المستوى الأول: الطرق العامة وهذا الطريق مباح لجميع الناس استخدامه، بشرط عدم الإضرار بالمادة عند ارتفاق الطريق، لذا يسمح فيه الجلوس للبيع والشراء والسلطة على هذا الطريق مناصفة بين الدولة التي تتدخل للحفاظ عليه بوصفه طريق يستخدم كل المسلمين والساكنين في الطريق لهم سلطة متساوية مع الدولة فيه بحكم أن الطريق يمر أمام مساكنهم التي لها حقوق على الطريق.
المستوى الثاني: هو الطريق العام الخاص، وهو أقل درجة من الطريق العام، إذ الارتفاق به من قبل جماعة المسلمين، يقل عن سابقه، وبالتالي تزداد سيطرة الساكن فيه عليه، فكان السكان هم المعنيين بصيانته ونظافته وتشاركهم فيه الدولة بنسبة أقل.
المستوى الثالث: الطريق الخاص، وأفضل أمثلة هذا الطريق هو الطريق غير النافذ، وهذا الطريق ملك لساكنيه فقط، ولذا سمى خاصًا، ولا يجوز لأحد من الساكنين إحداث أي شيء فيه دون استئذان الساكنين جميعا من هنا نستطيع أن نفسر مصطلح "زقاق مشترك الانتفاع" الذي يرد كثيرًا في الوثائق.
ويوضح خالد عزب أن هناك العديد من المصطلحات التي ظهرت في سجلات المحاكم الشرعية والمصادر الفقهية مثل حفظ حق الطريق وحقوق الجوار وضرر الدخان وإحياء الموات والحوائط المشتركة والركوب وغيرها وهي تدل على مدى التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في مجال إقرار قوانين تحافظ على البيئة الحضرية في المدن، بل تعكس تفاعل المجتمع الذي صاغ هذه القوانين الحاكمة بين الساكنين في المدن بعيدًا عن سلطة الدولة، بل تؤكد التزام الساكنين بهذه القوانين.
أما الفصل الثالث فيتعرض إلى فقه عمارة المساجد، بدءًا من عمارة المسجد النبوي في المدينة المنورة الذي يعد الأساس الذي صاغ هذا الفصل، ويفصل المؤلف عناصر المسجد المعمارية مثل حائط القبلة، فالاتجاه إلى القبلة شرط لصحة الصلاة، لذلك حرص المسلمون على ضبطه وترتب على ذلك براعة المسلمين في علوم الهندسة والفلك، كما خصص في حائط القبلة محراب عميق للأمام، ويكشف المؤلف أن المحراب عنصر معماري عرف عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وجدده عثمان بن عفان، وأضاف له عمر بن عبد العزيز طاق أي دخله معقودة علوية نتيجة لارتفاع حوائط المسجد في التجديد الأموي.
ثم نراه يتطرق إلى بيت الصلاة في المسجد الذي يأخذ عدة مسميات منها ظلة القبلة أو رواق القبلة، والمسجد التقليدي يتكون من صحن و أربع ظلات أكبرها ظلة القبلة التي يجب أن تكون مستطيلة التخطيط كما المسجد، حرصًا على طول الصفوف لأن الثواب الأكبر يمنح عادة للصفوف الأولى، ودرس خالد عزب تطور عمارة المسجد من زاوية محاولة المعماريين عدم قطع الصفوف واستعرض مهارات المعماريين المسلمين في ذلك، ثم عرج إلى المنبر الذي ظهر في عصر الرسول ثم تطور ليصبح عنصرا فنيا رائعا في المساجد، وتعرض لظهور المنابر المتحركة التي تبيت في حجرة خلف حائط القبلة ولا تظهر إلا في صلاة الجمعة حتى لا تقطع صفوف المصلين لكراهية ذلك في الإسلام.
أما المآذن فعلى عكس كثيرين من خبراء العمارة فيرى خالد عزب أن المئذنة بدأ ظهورها في عصر الرسول في تجديده للمسجد النبوي، وكانت عبارة عن ثلاث درجات يتبعها قاعدة يؤذن من عليها الصحابي الجليل بلال بن رباح، وتطرق عزب إلى تطور عمارة المآذن، ثم عرج إلى بعد اجتماعي وهو ضرر الكشف حيث يستطيع المؤذن كشف الجيران من أعلى المئذنة، وأثر ذلك على فتحات الإضاءة الطولية بالمآذن وارتفاع شرفات بعض المآذن كمئذنة مسجد الكتبية في مراكش، كما أن ضرر الكشف جعل الكثيرين يفضلون أن يتولى وظيفة المؤذن العميان في المساجد، فهذا يوفر لهم وظائف ويتلافى ضرر الكشف لأسرار بيوت المسلمين من أعلى المآذن.
أما الفصل الرابع فيتعرض خالد عزب إلى فقه الأسواق والمنشآت التجارية في الحضارة الإسلامية، فبناء الأسواق عند المسلمين مندوب، وبتطبيق القواعد الفقهية يرى المؤلف أن هناك اعتبارات عديدة في تخطيط أسواق المدن، لعل أولها، التوزيع المكاني الذي حكمته الحاجات المتكررة للسكان والضرورية التي قد تتطلب وجود أسواق معينة في كل حي عرفت بالسويقة لتلبية المتطلبات اليومية للسكان، في حين أن التوزيع المكاني يرتبط بضرر بعض السلع التي يجب أن تكون في ساحات عامة خارج المدن كأسواق الدواب والفواخير التي تسبب نيرانها ضررًا للسكان.
وثاني القواعد الحاكمة للأسواق هي التخصص حيث صنفت السلع والصناعات في المدن بحيث توجد كل حرفة أو تجارة على امتداد الشوارع الرئيسية وتتجاور السلع المتشابه ولا تتجاور السلع التي قد يضر وجودها سلعة أخرى مجاورة لها.
وتعرض المؤلف في هذا الفصل للعديد من المنشآت التجارية كالحوانيت والقياسر والوكالات والسماسر والفنادق، وضرب أمثلة من العديد من المدن الإسلامية كالجزائر وفاس وصنعاء والقاهرة ورشيد وتونس.
خصص المؤلف الفصل الخامس من الكتاب فقه عمارة المساكن، فبدأها بتفصيل رؤية الإسلام لعمارة المساكن فيما ذكره ابن القيم الجوزية عن هدى الرسول في عمارة مسكنه، وأكد هذه الفلسفة قول ابن العربي عن المساكن الذي يذكر "إن الله سبحانه و تعالى خصص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على من فيها من الخارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها، لئلا يهتكوا أستارهم "لكن سنقف كثيرا في هذا الفصل أمام تكوين واجهات منازل مدن مثل شبام ورشيد وفوه وبغداد والموصل التي تعد أشبه بتكوين قصصي، فمكوناتها تروي حكاية تكوين المبنى، وترسم ملامحه، فكل واجهة تعكس العديد من القواعد الفقهية مثل ضرر الصوت أو حق الجوار أو حيازة الضرر أو ضرر الكشف، فترى اختلاف كبير في بروز أو رجوع أو حتى مساحات الرواش والمشربيات والقمريات والشمسيات في الواجهة، بل إن مداخل هذه الواجهات لا تتقابل تطبيقا لمبدأ أضرر الكشف في فقه العمارة الإسلامية، امتد النص القصصي للمنازل إلى توزيع وحدات المنزل من الداخل، التي قامت على تخصيص وحدات للاستقبال، وأخرى لأهل المنزل تكفل لهم درجة عالية من الخصوصية، تعرض المؤلف كذلك لفلسفة تأثيث المنازل الإسلامية التي قامت على الاستغلال الأمثل للفراغات، بحيث تتعدد وظائف الأماكن فينتج عن ذلك اقتصاديات عالية في عمارة المساكن، بدأ يطرح الاختلاف بين آداب الف عام في القواعد الإسلامية والقواعد الغريبة وأثر ذلك على تأثيث الأماكن.
يكثف خالد عزب في نص كتابة عبر الفصل السادس بحثه في فقه المياه والمنشآت المائية في الحضارة الإسلامية، حيث تعتمد الرؤية الإسلامية للماء على كونه أصل الحياة وهبة من الله وشراب المعرفة، وللماء إضافة إلى هذا معنى تطهيري لأنه يطهر المسلم خارجيًا (جسده) وداخليًا (روحه). كما أن إمداد الآخرين بالماء، إنساناً كان أو حيوانًا، يعد من الزكاة في الإسلام.
لذا نجد خالد عزب يفرد مبحثًا في كتابه لقوانين ومحاكم المياه في الحضارة الإسلامية، فقد تطورت قوانين المياه سريعاً في التشريع الإسلامي حتى أصبحنا نردد مصطلحات خاصة بها مثل "حق جريان المياه" "حق الشرب" وغيرها كثير، ونرى كتاب القسمة وأصول الأرضيين يحتوي على فصلًا كاملًا عن هذه القوانين، فملكية الإنسان لماء المطر لا تكون إلا بقدر القبض عليه في الأوعية المنزلية، ولا يجوز لفرد التحكم في مجرى الماء، فالماء قسمة بين من يمر المجرى في أرضهم، ويتصرف المؤلف لمحكمة المياه في بلنسية بالأندلس والقواعد المنظمة لها.
ويتعرض المؤلف للمنشآت المائية وأحكامها وعمارتها كالسدود، وأشهرها سدود الطائف التي تعود إلى العصر الأموي، ويكشف عن اهتمام المسلمين بعمارة مقاييس مياه الأنهار التي تحدد مدى فيضان النهر ويترتب عليه تحديد خراج الأرض، وأشهر هذه المقاييس مقياس نهر النيل بالروضة ومقياس نهر دجلة.
كما يتعرض لعمارة السقايات والأسبلة وهي صهاريج عامة يعلوها منشأه لتسبيل المياه للعامة وتوفر أحياناً المياه للمنشآت العامة ولمنازل الفقراء وانتشرت في مدن مثل حلب والقاهرة وبغداد واستانبول وفاس.
كما تعرض في هذا الفصل أيضاً لعمارة الحمامات في الحضارة الإسلامية، فدخول الحمام عند معظم الفقهاء مستحب للطهارة بشرط التستر عند الاستحمام، وبين أن المسلمين بنوا حمامات للرجال وأخرى للنساء أو خصصوا أوقاتا في الحمامات للرجال وأخرى للنساء، وبين عزب مراحل الاستحمام، وخصائص عمارة الحمامات وفقاً للقواعد التي وردت في كتب فقه العمارة القديمة والتي خصص بعضها لعمارة الحمامات.
أما الفصل السابع فيخصصه المؤلف للربط بين المجتمع والأوقاف والعمارة، حيث أن العديد من الوظائف ومنها الرعاية الاجتماعية والصحية كانت تقوم بها المجتمعات الإسلامية، فلم تكن من وظائف الدولة، لذا نشأت مؤسسة الوقف لأداء هذه الوظائف، فعرف المؤلف الوقف وبين مؤسساته، وعرج على العديد من المنشآت التي تقدم هذه الوظائف كاليمارستانات أو المستشفيات، التي وصل بعضها درجة كبيرة من الشهرة عالمياً حيث لم تكن مجرد أماكن للعلاج وإجراء العمليات الجراحية بل كانت تدرس الطب وتجري بها الأبحاث العلمية كابيمارستان القلاووني في القاهرة الذي ابتكرت فيه العديد من الأدوية، واكتشفت فيه العديد من علل الأمراض، واكتشف فيه ابن النفيس الدورة الدموية.
كما عرج المؤلف لدور رعاية المطلقات والأرمل التي كانت توفر لهن حياة كريمة بعيداً عن تعقيدات الحياة الاجتماعية، بل وكثيراً ما كانت تسعى المشرفات على هذه الدور للإصلاح بين الأزواج المختلفين، وتطرق المؤلف للمطابخ التي كان يشيدها السلاطين والأمراء والأثرياء لتوفير الطعام للفقراء كمطابخ القدس والمدينة المنورة وسرايفو واستنبول.
يعد الفصل الثامن هو محصلة الإبداع المعماري في الحضارة الإسلامية، حيث تعرض فيه المؤلف إلى الهندسة المعمارية، فنراه يتعرض لابتكارات المسلمين في هذا المجال وظهور علوم جديدة كعلم عقود الأبنية، وهو علم يتناول أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنى وترميم المساكن الخ، وكذلك علم استنباط المياه الكامنة في الأرض وإظهارها لاعمار الأرض وزراعتها، ويعرفنا المؤلف على طائفة المعماريين ودورها الحضاري، ويكشف لنا عن أصول الرسم المعماري ونماذجه لدى المسلمين، واستعانة القضاة بالمهندسين كخبراء في مجال قضايا العمارة، ويقدم لنا سيرة أشهر المعماريين في حضارة المسلمين.
صدر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة كتاب "فقه العمران" العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية من تأليف الدكتور خالد عزب، الكتاب يعد دراسة شاملة للعلاقة بين العمارة الإسلامية والمجتمع الذي صاغ البيئة العمرانية والأنماط المعمارية والدولة التي يحدد المؤلف حدود سلطتها في المجال العمراني.
الكتاب يتكون من ثمانية فصول وملحق لمصطلحات فقه العمران، الفصل الأول خصصه المؤلف لفقه العمران حيث يرى فيه أن فقه العمران ارتبط بإطارين حاكمين له من الناحية الفكرية، الإطار الأول، هو السياسة الشرعية، وهي السياسة التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، سواء كانت تتعلق بالأمور السياسية العامة أو بالعمران مباشرة وكلاهما يترك أثره على العمارة، والإطار الثاني، هو فقه العمارة، والمقصود بفقه العمارة مجموعة القواعد التي ترتبت على حركية العمران نتيجة للاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في العمارة وما ينتج عن ذلك من تساؤلات، يجيب عنها فقهاء المسلمين، مستنبطين أحكام فقهية من خلال علم أصول الفقه.
جاءت تساؤلات المسلمين للفقهاء في هذا المجال، لرغبتهم في تشييد عمائر تتناسب مع قيمهم وحضارتهم، وتراكمت أحكام فقه العمران مع مرور الزمن لتشكل إطار قانوني يلتزم به الحكام قبل المحكومين.
تمثل رؤية السياسة الشرعية للعمران إطار عام حاكم يتناول كليات وليس له علاقة بالجزئيات، فالسياسة الشرعية تهدف إلى إرشاد الحاكم لطرق تحقيق مصالح المحكومين ولذلك يذكر الفقهاء ما يلي "للسلطان سلوك سياسة، وهي الحزم عندنا، ولا تقف على ما نطق به الشرع". وهو الأمر الذي ذكر عنه ابن عقيل الحنفي أنه "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" وعرف ذلك ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق كما يلي: "وظاهر كلامهم هنا أن السياسة: فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بها دليل جزئي".
لذا في المجال العمراني نجد الماوردي يحدد شروط صلاحية أي مكان للأعمار، فيذكر أن منها أن يستوطنها أهلها طلبا للسكون والدعة، حفظ الأموال فيه من استهلاك وإضاعة، التماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة، كما حدد ابن خلدون شروط يجب على الحاكم مراعاتها في اختيار مواضع المدن منها، مراعاة الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء، جلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة، طيب المراعي و مراعاة المزارع، ويفصل ابن ابي الربيع أكثر في تخطيط المدن من قبل الحاكم فيذكر أن من واجباته أن يسوق إليها الماء العذب، أن يقدر طرقها وشوارعها حتى تتناسب ولا تضيق، أن يبني فيها جامعا للصلاة في وسطها، أن يقدر أسواقها بكفايتها لينال السكان حوائجهم، أن يميز بين سكانها بأن لا يجمع أضدادًا أن يوطها بسور مخافة هجوم العداء، أن ينقل إليها من أهل الصنائع بقدر الحاجة لسكانها، ويحلل خالد عزب في كتابه هذه الشروط بالتفصيل.
ويفصل في الإطار الثاني وهو فقه العمران نظرة علماء الشرع للعمارة، فهناك البناء الواجب مثل دور العبادة، والمندوب كالأسواق التي تندب لتوفير السلع للناس، والمباح كالمساكن والبناء المحظور كالبناء على أرض الغير، وذهب خالد عزب إلى أن الفقهاء اعتمدوا في بنائهم لفقه العمارة على الحديث النبوي لا ضرر ولا ضرار، وعلى الآية القرآنية "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وذهب عزب إلى أن الفقهاء اعتمدوا لذلك على القاعدة الفقهية القائمة على جلب المنافع ودفع المفاسد.
والفصل الثاني من الكتاب يتناول دور الفقه في التنظيم والتخطيط العمراني للمدن، حيث قسم عزب الشوارع وأحكامها إلى ثلاث مستويات هي:
المستوى الأول: الطرق العامة وهذا الطريق مباح لجميع الناس استخدامه، بشرط عدم الإضرار بالمادة عند ارتفاق الطريق، لذا يسمح فيه الجلوس للبيع والشراء والسلطة على هذا الطريق مناصفة بين الدولة التي تتدخل للحفاظ عليه بوصفه طريق يستخدم كل المسلمين والساكنين في الطريق لهم سلطة متساوية مع الدولة فيه بحكم أن الطريق يمر أمام مساكنهم التي لها حقوق على الطريق.
المستوى الثاني: هو الطريق العام الخاص، وهو أقل درجة من الطريق العام، إذ الارتفاق به من قبل جماعة المسلمين، يقل عن سابقه، وبالتالي تزداد سيطرة الساكن فيه عليه، فكان السكان هم المعنيين بصيانته ونظافته وتشاركهم فيه الدولة بنسبة أقل.
المستوى الثالث: الطريق الخاص، وأفضل أمثلة هذا الطريق هو الطريق غير النافذ، وهذا الطريق ملك لساكنيه فقط، ولذا سمى خاصًا، ولا يجوز لأحد من الساكنين إحداث أي شيء فيه دون استئذان الساكنين جميعا من هنا نستطيع أن نفسر مصطلح "زقاق مشترك الانتفاع" الذي يرد كثيرًا في الوثائق.
ويوضح خالد عزب أن هناك العديد من المصطلحات التي ظهرت في سجلات المحاكم الشرعية والمصادر الفقهية مثل حفظ حق الطريق وحقوق الجوار وضرر الدخان وإحياء الموات والحوائط المشتركة والركوب وغيرها وهي تدل على مدى التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في مجال إقرار قوانين تحافظ على البيئة الحضرية في المدن، بل تعكس تفاعل المجتمع الذي صاغ هذه القوانين الحاكمة بين الساكنين في المدن بعيدًا عن سلطة الدولة، بل تؤكد التزام الساكنين بهذه القوانين.
أما الفصل الثالث فيتعرض إلى فقه عمارة المساجد، بدءًا من عمارة المسجد النبوي في المدينة المنورة الذي يعد الأساس الذي صاغ هذا الفصل، ويفصل المؤلف عناصر المسجد المعمارية مثل حائط القبلة، فالاتجاه إلى القبلة شرط لصحة الصلاة، لذلك حرص المسلمون على ضبطه وترتب على ذلك براعة المسلمين في علوم الهندسة والفلك، كما خصص في حائط القبلة محراب عميق للأمام، ويكشف المؤلف أن المحراب عنصر معماري عرف عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وجدده عثمان بن عفان، وأضاف له عمر بن عبد العزيز طاق أي دخله معقودة علوية نتيجة لارتفاع حوائط المسجد في التجديد الأموي.
ثم نراه يتطرق إلى بيت الصلاة في المسجد الذي يأخذ عدة مسميات منها ظلة القبلة أو رواق القبلة، والمسجد التقليدي يتكون من صحن و أربع ظلات أكبرها ظلة القبلة التي يجب أن تكون مستطيلة التخطيط كما المسجد، حرصًا على طول الصفوف لأن الثواب الأكبر يمنح عادة للصفوف الأولى، ودرس خالد عزب تطور عمارة المسجد من زاوية محاولة المعماريين عدم قطع الصفوف واستعرض مهارات المعماريين المسلمين في ذلك، ثم عرج إلى المنبر الذي ظهر في عصر الرسول ثم تطور ليصبح عنصرا فنيا رائعا في المساجد، وتعرض لظهور المنابر المتحركة التي تبيت في حجرة خلف حائط القبلة ولا تظهر إلا في صلاة الجمعة حتى لا تقطع صفوف المصلين لكراهية ذلك في الإسلام.
أما المآذن فعلى عكس كثيرين من خبراء العمارة فيرى خالد عزب أن المئذنة بدأ ظهورها في عصر الرسول في تجديده للمسجد النبوي، وكانت عبارة عن ثلاث درجات يتبعها قاعدة يؤذن من عليها الصحابي الجليل بلال بن رباح، وتطرق عزب إلى تطور عمارة المآذن، ثم عرج إلى بعد اجتماعي وهو ضرر الكشف حيث يستطيع المؤذن كشف الجيران من أعلى المئذنة، وأثر ذلك على فتحات الإضاءة الطولية بالمآذن وارتفاع شرفات بعض المآذن كمئذنة مسجد الكتبية في مراكش، كما أن ضرر الكشف جعل الكثيرين يفضلون أن يتولى وظيفة المؤذن العميان في المساجد، فهذا يوفر لهم وظائف ويتلافى ضرر الكشف لأسرار بيوت المسلمين من أعلى المآذن.
أما الفصل الرابع فيتعرض خالد عزب إلى فقه الأسواق والمنشآت التجارية في الحضارة الإسلامية، فبناء الأسواق عند المسلمين مندوب، وبتطبيق القواعد الفقهية يرى المؤلف أن هناك اعتبارات عديدة في تخطيط أسواق المدن، لعل أولها، التوزيع المكاني الذي حكمته الحاجات المتكررة للسكان والضرورية التي قد تتطلب وجود أسواق معينة في كل حي عرفت بالسويقة لتلبية المتطلبات اليومية للسكان، في حين أن التوزيع المكاني يرتبط بضرر بعض السلع التي يجب أن تكون في ساحات عامة خارج المدن كأسواق الدواب والفواخير التي تسبب نيرانها ضررًا للسكان.
وثاني القواعد الحاكمة للأسواق هي التخصص حيث صنفت السلع والصناعات في المدن بحيث توجد كل حرفة أو تجارة على امتداد الشوارع الرئيسية وتتجاور السلع المتشابه ولا تتجاور السلع التي قد يضر وجودها سلعة أخرى مجاورة لها.
وتعرض المؤلف في هذا الفصل للعديد من المنشآت التجارية كالحوانيت والقياسر والوكالات والسماسر والفنادق، وضرب أمثلة من العديد من المدن الإسلامية كالجزائر وفاس وصنعاء والقاهرة ورشيد وتونس.
خصص المؤلف الفصل الخامس من الكتاب فقه عمارة المساكن، فبدأها بتفصيل رؤية الإسلام لعمارة المساكن فيما ذكره ابن القيم الجوزية عن هدى الرسول في عمارة مسكنه، وأكد هذه الفلسفة قول ابن العربي عن المساكن الذي يذكر "إن الله سبحانه و تعالى خصص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على من فيها من الخارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها، لئلا يهتكوا أستارهم "لكن سنقف كثيرا في هذا الفصل أمام تكوين واجهات منازل مدن مثل شبام ورشيد وفوه وبغداد والموصل التي تعد أشبه بتكوين قصصي، فمكوناتها تروي حكاية تكوين المبنى، وترسم ملامحه، فكل واجهة تعكس العديد من القواعد الفقهية مثل ضرر الصوت أو حق الجوار أو حيازة الضرر أو ضرر الكشف، فترى اختلاف كبير في بروز أو رجوع أو حتى مساحات الرواش والمشربيات والقمريات والشمسيات في الواجهة، بل إن مداخل هذه الواجهات لا تتقابل تطبيقا لمبدأ أضرر الكشف في فقه العمارة الإسلامية، امتد النص القصصي للمنازل إلى توزيع وحدات المنزل من الداخل، التي قامت على تخصيص وحدات للاستقبال، وأخرى لأهل المنزل تكفل لهم درجة عالية من الخصوصية، تعرض المؤلف كذلك لفلسفة تأثيث المنازل الإسلامية التي قامت على الاستغلال الأمثل للفراغات، بحيث تتعدد وظائف الأماكن فينتج عن ذلك اقتصاديات عالية في عمارة المساكن، بدأ يطرح الاختلاف بين آداب الف عام في القواعد الإسلامية والقواعد الغريبة وأثر ذلك على تأثيث الأماكن.
يكثف خالد عزب في نص كتابة عبر الفصل السادس بحثه في فقه المياه والمنشآت المائية في الحضارة الإسلامية، حيث تعتمد الرؤية الإسلامية للماء على كونه أصل الحياة وهبة من الله وشراب المعرفة، وللماء إضافة إلى هذا معنى تطهيري لأنه يطهر المسلم خارجيًا (جسده) وداخليًا (روحه). كما أن إمداد الآخرين بالماء، إنساناً كان أو حيوانًا، يعد من الزكاة في الإسلام.
لذا نجد خالد عزب يفرد مبحثًا في كتابه لقوانين ومحاكم المياه في الحضارة الإسلامية، فقد تطورت قوانين المياه سريعاً في التشريع الإسلامي حتى أصبحنا نردد مصطلحات خاصة بها مثل "حق جريان المياه" "حق الشرب" وغيرها كثير، ونرى كتاب القسمة وأصول الأرضيين يحتوي على فصلًا كاملًا عن هذه القوانين، فملكية الإنسان لماء المطر لا تكون إلا بقدر القبض عليه في الأوعية المنزلية، ولا يجوز لفرد التحكم في مجرى الماء، فالماء قسمة بين من يمر المجرى في أرضهم، ويتصرف المؤلف لمحكمة المياه في بلنسية بالأندلس والقواعد المنظمة لها.
ويتعرض المؤلف للمنشآت المائية وأحكامها وعمارتها كالسدود، وأشهرها سدود الطائف التي تعود إلى العصر الأموي، ويكشف عن اهتمام المسلمين بعمارة مقاييس مياه الأنهار التي تحدد مدى فيضان النهر ويترتب عليه تحديد خراج الأرض، وأشهر هذه المقاييس مقياس نهر النيل بالروضة ومقياس نهر دجلة.
كما يتعرض لعمارة السقايات والأسبلة وهي صهاريج عامة يعلوها منشأه لتسبيل المياه للعامة وتوفر أحياناً المياه للمنشآت العامة ولمنازل الفقراء وانتشرت في مدن مثل حلب والقاهرة وبغداد واستانبول وفاس.
كما تعرض في هذا الفصل أيضاً لعمارة الحمامات في الحضارة الإسلامية، فدخول الحمام عند معظم الفقهاء مستحب للطهارة بشرط التستر عند الاستحمام، وبين أن المسلمين بنوا حمامات للرجال وأخرى للنساء أو خصصوا أوقاتا في الحمامات للرجال وأخرى للنساء، وبين عزب مراحل الاستحمام، وخصائص عمارة الحمامات وفقاً للقواعد التي وردت في كتب فقه العمارة القديمة والتي خصص بعضها لعمارة الحمامات.
أما الفصل السابع فيخصصه المؤلف للربط بين المجتمع والأوقاف والعمارة، حيث أن العديد من الوظائف ومنها الرعاية الاجتماعية والصحية كانت تقوم بها المجتمعات الإسلامية، فلم تكن من وظائف الدولة، لذا نشأت مؤسسة الوقف لأداء هذه الوظائف، فعرف المؤلف الوقف وبين مؤسساته، وعرج على العديد من المنشآت التي تقدم هذه الوظائف كاليمارستانات أو المستشفيات، التي وصل بعضها درجة كبيرة من الشهرة عالمياً حيث لم تكن مجرد أماكن للعلاج وإجراء العمليات الجراحية بل كانت تدرس الطب وتجري بها الأبحاث العلمية كابيمارستان القلاووني في القاهرة الذي ابتكرت فيه العديد من الأدوية، واكتشفت فيه العديد من علل الأمراض، واكتشف فيه ابن النفيس الدورة الدموية.
كما عرج المؤلف لدور رعاية المطلقات والأرمل التي كانت توفر لهن حياة كريمة بعيداً عن تعقيدات الحياة الاجتماعية، بل وكثيراً ما كانت تسعى المشرفات على هذه الدور للإصلاح بين الأزواج المختلفين، وتطرق المؤلف للمطابخ التي كان يشيدها السلاطين والأمراء والأثرياء لتوفير الطعام للفقراء كمطابخ القدس والمدينة المنورة وسرايفو واستنبول.
يعد الفصل الثامن هو محصلة الإبداع المعماري في الحضارة الإسلامية، حيث تعرض فيه المؤلف إلى الهندسة المعمارية، فنراه يتعرض لابتكارات المسلمين في هذا المجال وظهور علوم جديدة كعلم عقود الأبنية، وهو علم يتناول أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنى وترميم المساكن الخ، وكذلك علم استنباط المياه الكامنة في الأرض وإظهارها لاعمار الأرض وزراعتها، ويعرفنا المؤلف على طائفة المعماريين ودورها الحضاري، ويكشف لنا عن أصول الرسم المعماري ونماذجه لدى المسلمين، واستعانة القضاة بالمهندسين كخبراء في مجال قضايا العمارة، ويقدم لنا سيرة أشهر المعماريين في حضارة المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق