الشيخ فرح ود تكتوك «رحمه الله» حينما قال: آخر الزمن السفر بالبيوت والكلام بالخيوط.. ويقصد القطار والتيلفون، كان يعني بنبوته هذا القرن العشرين!! اليوم الكلام أصبح بالموبايلات حيث لا خيوط!! والسفر أصبح «تمشي خطوة اثنين مستحيل» في قلب الخرطوم، وأصبحت المدينة مصابة بضيق الشرايين وانسداد في البلعوم!! وفي عصر الشيخ فرح كانت البلد شايلة الناس بالرغم من عدم التقدم التقني والانفتاح في التعليم. «حق يوم الليلة»، الرجل البسيط كان يتزوج مثنى وثلاث ورباع ويكثر أمة محمد، وحبل المهلة كان يربط ويفضل، والحياة كانت ماشة، لا سرطان ولا ديوكسين في البيض والدجاج واللبن ولا بروميد بوتاسيوم ولا إيدز ولا سكري ولا ضغط ولا كبد وبائي ولا أمراض نفسية ولا ولادة متعسرة ولا أطفال مشوهين ولا أطفال مايقوما ولا مانع ذكوري، ولا ولا لاءات أكثر من لاءات الفنان صلاح مصطفى متعه الله بالصحة والعافية.
اليوم أصبحت شوارعنا تعلن في الصحف بأنها ستغلق لتتحول لاتجاه واحد!!
«ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ضاقت تاني»!!
مجلس تشريعي الخرطوم أو برلمان السودان كله لا يستطيع أن يغير قوانين الإنجليز.. كسرنا تمثال كتشنر وقتلنا غردون باشا، ونلنا بعضاً من استقلالنا. ولكن مازلنا نحكم نفسنا بالإنجليز بالرغم من التردي الحاصل في الإنجليزي!!
بالأمس طالعتنا الصحف بإعلان ضخم عن تنفيذ خطة يراد بها التحسين المروري لمدينة أم درمان «كرش الفيل»، كما يحلو للبعض أن يصفها، الخطة تتلخص في السير بنظام الاتجاه الواحد لبعض شوارع مدينة أم درمان الوسطية.
وهذه الوصفة الطبية العلاجية تعتبر مسكنةً لعلاج ما يسمى الاختناقات المرورية الذي تعاني منه أيضاً وسط الخرطوم، وبعض تقاطعات بحري «وعينا للفيل ونطعن في ضلو»!!
منذ عام 1956م وحتى اليوم لم ننجح في فتح شرايين العاصمة والمدينة كما الإنسان يمكن أن تمرض وتعاني ضيقاً في الشرايين وأزمة حادة وسوء هضم ومسالك بولية «صرف صحي» وضيقاً في التنفس «عدم وجود الساحات والميادين والمنتزهات»، كما يمكن أن تصاب بالطمام وسوء الهضم «كثافة سكانية زائدة وزحام».. وإسهالاً حاداً «انفجار المجاري» وتصاب بحالة نفسية وجنون «إذا كان مظهرها متسخاً وفوضوياً من كثرة الأكشاك والأنقاض والمتسولين والمجانين». وقد تكون مدينة مدخنة «إذا كثرت فيها الركشات والعربات الهكر». أو مدينة مهلوسة إذا كثرت مايكرفوناتها كما يحدث في الأسواق والحفلات».. أو بالعمى إذا انقطع النور، وبالجفاف إذا انقطع الماء، فكل تلك الأمراض مصابة بها عاصمتنا القومية وبعض عواصم الولايات!! شفاها الله، تخيل عزيزي شاغل الطريق.. عزيزي المواطن.. أنك تخسر كم ساعة في اليوم في الطريق؟! أضرب هذه الساعات في عدد الأيام والشهور.. ستعرف كم سنة وأنت ماشي في السودان؟
أنا شخصياً أتحرك من منزلنا بالحارة «100» بأم درمان للخرطوم لمكان العمل وأصل في ساعتين بالمواصلات، والرجوع ساعتين بالتمام، يعني أربع ساعات في اليوم طريق، من مجمل ساعات العمل الثماني، يعني بحساب أن اليوم به «12» ساعة فإنني استغرق في الطريق ثلث اليوم!
وأسقط هذا المثال على آلاف إن لم يكن على ملايين مثلي، ثم أضربها في عدد الأيام، انظر عزيزي القارئ كم من السنين نتأخر نحن في اليوم؟! كم سنة نتأخر في اليوم الواحد؟! والمثل يقول الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك!! نحن اتقطعنا حتت حتت!!
تغزل في شوارع المدن المتقدمة عزيزي القارئ، انظر كم يتسع الطريق فيها لكل وسائل المواصلات، بدءاً من الراجل والبسكليت والموتورسايكل وعربات صغيرة وأخرى ثقيلة، وفوق كل هذا وذاك انفاق تحت الأرض وكباري طايرة لا تحتاج لأستوبات ولا فيها زنقات ولا سلوكيات مثل «اقدلي وسكتي الخشامة واكوي العوازل كي» في الشارع.
إن بنية التقدم لأية مدينة وبلد وأمة تبدأ بتخطيط المدن ومنها استثمار الوقت وسرعة التواصل.. ولا مجال للقوانين المقيدة لحرية التقدم التي نشأت من قوانين الاستعمار التي لا تزال تشكل العقبات بملكيات تستعصي على الصالح العام!!
والمجالس التشريعية أن لم تنشأ لغرض إحداث ثورة فاعلة في اطلاق وكسر قيود المدن فلا مجال لمدينة أو دولة أن تتقدم وستبقى اطلالاً.
تخيل عزيزي القارئ أنك أصبحت ذات يوم واطلعت على الصحف وهي تنشر اخباراً وليست قرارات بفتح الطريق الفلاني الشريان الرئيس الذي يربط قلب الخرطوم بكل ام درمان وترهلاتها.. فتح هذا الطريق باربعة مسارات على الأقل «فانبهلت» المواصلات كما السيل.. إنه لتهون الخسارات وما يتكبده بعض الذين تضرروا، ولكن في المقابل تم انقاذ بلاد بأكملها متمثلة في عاصمتها القومية.. وتنفست الصعداء وخرجت من غرفة الانعاش.
إنها أحلام زلوط!! أليس من حق زلوط أن يحلم؟!
زلوط الذي نتفه الانجليز الذين سجلوا كثيراً من العقارات والأراضي في اماكن استراتيجية، وهم أكثر أبناء آدم وحواء دراية في عصرنا هذا بالمستقبل.. سجلوا تلك المواقع لمحسوبيهم وهي تقدر اليوم بالمليارات، وحتى كنائسهم ظلت رمزاً تعبر عن أنهم كانوا يملكون السودان ولازالت بصماتهم.
وخططوا الخرطوم على نسق العلم البريطاني.. ونحن اليوم نضع مخططاً هيكلياً.. ونحلم ونتصور ونضع هذا المخطط على عربة تجرها سلخفاء.. ثم نرفع «شعار» التحدي لإسرائيل بأننا سنرد لها الصاع صاعين!!
الرد يكمن عزيزي القارئ في أن نبدأ أولاً ببيت الردع السوداني.. الذي منه يبدأ استثمار الوقت «الزمن».. الساعات الدقائق الثواني.. فهؤلاء القوم يلعبون ماتش الالفية الثالثة على حساب الزمن والتفوق، فهم يتفوقون علينا بحساب الزمن.. ونحن نقتل ولا نستثمر الزمن من واقع ثورة على القوانين.. تعقبها ثورة في التنفيذ. ولا معنى للمخطط الهيكلي الذي سيصبح كعجل السامري إن لم نعن بفك شفرة وسط الخرطوم وام درمان، ولن تجدي سياسة الاتجاه الواحد.
كسرة
أم درمان في حفرة دخان!!
وكارثة بيئية أخرى بسبب حريق في مصنع تجميع النفايات.. الدخان تصاعد كثيفاً لعنان السماء واستمر حتى في اليوم التالي وربما في الأيام اللاحقة تعيش المدينة في حفرة دخان.. إنه تداخل النفايات والمناطق الصناعية مع سكني الاهالي!!
وقبل أيام دفع البعض ثمن مجاورة وتداخل المناطق العسكرية، ثم ما ادراك ما تداخل الأسواق مع الشوارع الرئيسة.. الحقوا العاصمة.