نحو إنشاءات صفرية الانبعاثات الكربونية
بقلم: دكتور مهندس مستشار مالك علي دنقلا
(2/5)
تطرق
الجزء الأول من هذه السلسلة إلى تعريفات إلى الموضوع، وإلماحات إلى خطورة
الانبعاثات الكربونية، والاتفاقيات الدولية لمجابهتها. إضافة إلى علاقة الأمر
بصناعة التشييد، ومصادر الانبعاثات الكربونية عبر دورة حياة المباني.
واليوم
يستمر الحديث ليتناول جوانب أخرى من الموضوع.
سياسات مستقبلية ومبادرات
إستراتيجية:
ظل
قطاع المباني إلى فترة كبيرة يشكل أحد المجالات الرئيسية التي تفتقر إلى سياسات محددة
للتخفيف من آثار تغير المنا، على الرغم من أهميتها لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية،
حيث يرتبط حوالي 40% من انبعاثات الكربون بالبيئة المبنية، ويشمل ذلك الانبعاثات المرتبطة
بتدفئة المباني والطاقة التي تستهلكها لدعم العمليات وتشغيل البنية التحتية، كما أن
قطاع البناء يمثل حوالي 50 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ويرتبط أكثر من
نصفها بمنتجات ومواد البناء، وخاصة الصلب والأسمنت، والتي تمثل حوالي 15% من انبعاثات
الكربون العالمية، كما ينتج قطاع البناء أيضًا حوالي 60% من النفايات المنتجة.
ولقد أدى التوجه العالمي نحو حماية البيئة من الأثر السـلبي
للانبعاثات الكربونية الصـادرة عن المباني والحفاظ على الموارد إلى إصدار العديد من
السياسات التي تهتم باستدامة المباني، حيث تمثل الاستراتيجيات المستقبلية الرامية إلى
الوصول باستهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية في المباني إلى المستوى الصفري جزءاً
أساسياً من استراتيجية إزالة الكربون على الصعيد العالمي، كما يتم العمل على أن تصبح
تلك الاستراتيجيات الشكل الرئيسي الذي يتخذه تشييد المباني في جميع الاقتصادات في سبيل
الوصول إلى مستوى الانبعاثات الصفرية بحلول عام 2050م.
ويعد تضمين المباني في تعهدات المناخ بموجب اتفاقية باريس
المعروفة، وقوانين الطاقة الإلزامية في المباني، والإطار الكربوني لنظم التشييد التابع
للمجلس العالمي للأعمال التجارية من أجل التنمية المستدامة؛ ومنتدى البناء النظيف لفريق
قيادة المدن الأربعين المعني بالمناخ؛ وإطار منظمة العمارة 2030 لبلوغ المستوى الصفري
للانبعاثات؛ من ضمن هذه السياسات العالمية.
هذا إلى جانب مبادرات أخرى كثيرة للوصول بقطاع
البناء إلى الخلو تماماً من انبعاثات الكربون، ومن أبرزها مبادرة الانفاق على (الاقتصاد
الأخضر)، أي منخفض أو منعدم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، في الولايات المتحدة بحزم
مالية بتريليونات الدولارات، وكذلك مبادرة (السعودية الخضراء( باستثمارات بلغت عشرات مليارات الدولارات، وحتى الآن، هناك تريليونات أكثر
تم التعهد باستثمارها في التحول الاقتصادي نحو الطاقة المتجددة وتكنولوجيا خفض الانبعاثات
في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا.
وتشمل هذه المبادرات الالتزام بالمباني عديمة
انبعاثات الكربون الصادر عن المجلس للمباني والتشييد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية
التي تحدد الأهداف والجداول الزمنية والإجراءات الرئيسية اللازمة للوصول إلى أن تكون
جميع المباني عديمة الانبعاثات ومتسمة بالكفاءة وقادرة على الصمود من الآن حتى عام
2050م.
علاوة
على ذلك، أصدر التحالف العالمي للمباني والتشييد في عام 2020م خرائط الطريق الإقليمية
للمباني والتشييد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، التي تحدد الأهداف والجداول
الزمنية والإجراءات الرئيسية اللازمة للوصول إلى أن تكون جميع المباني عديمة الانبعاثات،
ومتسمة بالكفاءة وقادرة على الصمود من الآن حتى عام 2050م على نطاق العالم، ويلزم تنفيذ
خرائط الطريق هذه، جنباً إلى جنب مع الالتزامات المذكورة أعلاه، ضمن إطار الجهود المبذولة
للوصول بقطاع البناء إلى الخلو تماماً من انبعاثات الكربون.
وهناك
عدد كبير من مبادرات إزالة الكربون التي تم تطويرها من قبل قطاع الأعمال والأوساط الأكاديمية
ومنظمات القطاع التطوعي، والتي تتماشى بشكل عام مع أهداف سياسة الحكومات.
وبالنظر
إلى نشاط القطاع العام الأوسع في البناء، فإن تصميم وتنفيذ المشاريع والبرامج يمكن
أن يعزز تأثيرها رغبة السلطات المتعاقدة أيضًا في النظر في المشاركة في مبادرات معينة،
حيث تتماشى هذه المبادرات مع استراتيجياتها التنظيمية، وحيث لا تتعارض الالتزامات مع
لوائح المشتريات أو السياسات الحالية.
سياسات تعديل قوانين الطاقة والبناء:
بدأ الاهتمام على وجه التحديد يتجه إلى قوانين
الطاقة الخاصة بالمباني، مما يدل على أهمية كفاءة استخدام الطاقة في المباني للمستقبل
المناخي، خاصة وإن جميع دول العالم تشهد نمواً مطرداً في أعداد السكان، والتوسع العمراني،
والتمدد في قطاعي الإنشاءات والإسكان، وبالتالي يجب أن يرافقها تخطيط مستدام قادر على
الاستجابة مع التغير المناخي. حيث إن إعادة تأهيل المباني الحالية، والمنوي إنشاؤها،
للتقليل من انبعاثات الكربون الناجمة عنها يتم من خلال
توفير المواد والتكنولوجيات التي تسهم في تقليل الانبعاثات في المباني المراد تأهيلها،
وإيجاد العمالة المدربة لتشغيلها في المشروع.
كما يجري حالياً استخدام قوانين البناء ومعايير
اعتماد الاستدامة في تشييد عدد من المباني يفوق أي وقت مضى، غير أنه من الضروري تعزيز
تلك القوانين والمعايير وتوسيع نطاقها؛ لزيادة العمل من أجل الوصول بالكربون في رصيد
المباني الموجودة إلى مستوى الصفر، فهناك فرصة كبيرة للاستفادة بالقوانين والمعايير
وقواعد الاعتماد التي تدفع نحو إزالة انبعاثات الكربون تماماً في القطاع بأكمله.
وذكرت دراسة حديثة أن هناك عدة دول بدأت تخطط
لإصدار قوانين جديدة أو معززة في هذا الصدد اعتباراً من عام 2021م، حيث هناك فرصة
كبيرة للاستفادة بالقوانين والمعايير وقواعد الاعتماد التي تدفع نحو إزالة انبعاثات
الكربون تماماً في القطاع بأكمله، كما أظهر الإنفاق على المباني الموفرة للطاقة زيادة
في عام 2019م لأول مرة بالمقارنة مع السنوات الثلاث السابقة، مع زيادة
الاستثمار في كفاءة استخدام الطاقة في المباني في جميع الأسواق العالمية إلى 152 بليون دولار أمريكي في عام 2019م، وهي زيادة نسبتها 3 في المائة مقارنة بعام 2018.
الاستثمار في المباني صفرية
الكربون
اصبحت المباني صفرية الكربون تمثل إحدى فرص الاستثمار
العالمية الكبرى في العقد المقبل، وتقدّر مؤسسة التمويل الدولية القيمة التي ستمثلها
بحلول عام 2030م بمبلغ
24.7 تريليون دولار، وهناك ثمة بوادر إيجابية في
القطاع بأسره على أنه يجري التمسك في استراتيجيات الاستثمار بفكرة إزالة الكربون من
المباني، حيث بدأت المؤسسات المالية والشركات العقارية تدرك ما يتيحه الاستثمار في
المباني المستدامة من إمكانات نمو قوية ومن فرص استثمارية، فعلى سبيل المثال، قام ما
نسبته 90% من 1005 من الشركات العقارية وشركات
البناء وصناديق الاستثمار العقاري والصناديق الأخرى، التي تدير أصولاً بقيمة تتجاوز
4.1 تريليونات دولار بتقديم تقارير في عام 2019م لمؤسسة
المعيار العالمي لمراعاة البيئة والمسائل الاجتماعية والحوكمة فيما يتعلق بالأصول الحقيقية،
بمواءمة مشاريعها مع معايير تقييم المباني الخضراء فيما يتصل بالتشييد والعمليات.
وتقوم
الحكومات بدور هام في إتاحة هذه الفرصة، لا سيما الآن، من خلال إدراج تدابير إزالة
الكربون بشكل منهجي في حزم الإنعاش، ويمكن أن تزيد بشكل ملحوظ معدلات التجديد، وتوجّه
الاستثمار إلى المباني العديمة الكربون، يساعد على توفر فرص العمل، ورفع القيمة العقارية،
والحد من استغلال المواد الأولية، وإمكانات المواد الأحيائية؛ وإمكانات استخدام الحلول
المستمدَّة من الطبيعة لتخضير المدن والمباني، مع خفض الطلب على الطاقة والتبريد؛ والعلاقة
المتبادلة بين الإسكان والصحة والرفاه؛ والحاجة الملحة إلى حلول مستدامة في مجال التبريد
من أجل تحقيق القدرة على الصمود والتكيف.
تكاليف تشييد المباني الصفرية والوفورات
المستقبلية:
لا شك أن تشييد المباني الصفرية مكلف من الناحية المادية،
لكن في الواقع، وبحسب دراسة أجراها معهد روكي ماونتين في الولايات المتحدة، فإن معدل
الفرق للتكلفة الأولية بين المباني صفرية الطاقة وتلك التقليدية يبلغ نسبة 7.3%.
وقد تكون التكلفة المالية هي إحدى العقبات لتطور وتزايد
الأبنية صفرية الطاقة، لكن بالطبع، لا يمكننا أن نغض النظر عن الوفورات المالية التي
تحققها المباني صفرية الطاقة عبر استعادة تكلفة البناء خلال السنوات الأولى للبناء،
ناهيك عن الخسائر البيئية والتكاليف الاجتماعية التي يمكن تفاديها، لذا على الدول وضع
استراتيجيات وخطط مالية لتحفيز إنشائها، حيث يجب أن تستبدل الصناعة الوقود الأحفوري
بمصادر طاقة ومواد أولية منخفضة الكربون، وأن تتجه تحديداً إلى استخدام الكهرباء المتجددة
الخالية من الكربون. كما يتعين عليها استخدام الكتلة الحيوية المنتجة بشكل مستدام والهيدروجين
كمواد أولية أو كوقود.
برنامج التتبع الجديد المستخدم
لدى التحالف العالمي للمباني والتشييد:
يتتبع البرنامج الجديد لتتبُّع مناخ المباني المستخدم
لدى التحالف العالمي للمباني والتشييد ما يحرزه القطاع من تقدم في إزالة الكربون على
نطاق العالم، ويستخدم هذا البرنامج بيانات مستمدَّة من سبعة مؤشرات عالمية لبيان التقدم
المحرز منذ عام 2015م في وضع مقياس يشمل مؤشرات تتعلق بالإجراءات والتأثير، ويدل هذا
المقياس على أن التقدم السنوي المحرَز في إزالة الكربون آخذ في التباطؤ، وأنه قد انخفض
في الواقع إلى النصف تقريباً من عام 2016م إلى
2019م.
ورغم أن عدد الإجراءات المتَّخَذة لخفض انبعاثات ثاني
أكسيد الكربون في قطاع المباني آخذ في الازدياد، فإن معدل التحسن السنوي آخذ في التناقص،
ولوضع قطاع المباني على المسار الصحيح المؤدّي إلى الوصول بصافي انبعاثات الكربون إلى
الصفر بحلول عام 2050م، يتعين على جميع الجهات الفاعلة في سلسلة قيمة المباني
أن تساهم في الجهود الرامية إلى عكس هذا الاتجاه وزيادة إجراءات إزالة الكربون وتأثيرها
خمسة أضعاف.
ويتألف برنامج تتبع مناخ المباني من المؤشرات
السبعة التالية: الاستثمار المتزايد في كفاءة الطاقة في المباني عالمياً (مقيس
بقيمة الاستثمارات)، وقوانين الطاقة الخاصة بالمباني (مقيسة بعدد البلدان)؛ وشهادات
اعتماد المباني الخضراء (مقيسة بنسب النمو التراكمي)؛ والمساهمات المحددة وطنياً المتضمنة
لإجراءات في قطاع البناء (مقيسة بعدد البلدان)؛ وحصة الطاقة المتجددة في الطاقة النهائية
في المباني على نطاق العالم (مقيسة بالنسبة في المئة)؛ وكثافة وحدة الطاقة في قطاع
البناء (كيلوواط ساعة/متر مربع)؛ وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
أصبحت الحكومات تتخذ التخطيط المستقبلي لتحقيق الهدف النهائي
بدلاً من المعالم قصيرة الأجل، وذلك من خلال خيارات مسبقة تضع الأسس اللازمة للتنمية
في المستقبل، فعلى سبيل المثال يشكل تصميم المدن والاستثمار في البحوث والتكنولوجيات
التي سيحتاج إليها العالم في العشرين أو الخمسين عاماً المقبلة أهمية بالغة، كذلك خفض
الرسوم المفروضة على السلع منخفضة الكربون كألواح الطاقة الشمسية والمصابيح الموفرة
للطاقة، وذلك وفقاً لما اتفقت عليه مؤخراً بلدان رابطة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط
الهادئ.
كما تم اعتماد العديد من التقنيات المبتكرة والرائدة لتوجيه
العملية الكاملة للبناء بهذا المفهوم لإنشاء مباني مستقبلية تعتمد على الاستهلاك منخفض
الطاقة وصفر كربون دون الانبعاثات، حيث أصبح تطوير المباني الحديثة معدومة الطاقة ممكنًا
إلى حد كبير من خلال التقدم المحرز في تكنولوجيا الطاقة الجديدة والبناء وتقنياتهما،
وتشمل تلك الألواح الشمسية عالية الكفاءة، والمضخات الحرارية عالية الكفاءة والنوافذ
ثلاثية ورباعية الزجاج وذات الانبعاثات المنخفضة.
حان الوقت للتعاون بين القطاعين العام والخاص:
حان
الوقت للتعاون الجذري بين الجهات الفاعلة في القطاعين العام والخاص، عبر برامج التخفيف
والتكيف والصحة، حيث يجب على الحكومات والمنظمات العامة والخاصة إجراء تقييمات لمساهماتها
في انبعاثات الكربون، ووضع استراتيجيات تفصيلية لدعم الانتقال إلى رصيد عالمي من المباني
المستدامة ذات الانبعاث الصفري من الكربون.
فبالنسبة
لمالكي المباني والشركات، يعني ذلك اتخاذ أهداف قائمة على العلم لتوجيه الإجراءات،
والتعاون مع أصحاب المصلحة فيما يتعلق بتصميم المباني وتشييدها وتشغيلها ومستخدميها
من أجل إقامة الشراكات وبناء القدرات.
وبالنسبة
للمستثمرين، يعني ذلك إعادة تقييم جميع الاستثمارات العقارية من منطلق كفاءة استخدام
الطاقة، والحد من الكربون.
وبالنسبة
للحكومات الوطنية، يعني ذلك زيادة التزامات البلدان بتقديم المساهمات المحدَّدة وطنياً،
والأخذ باستراتيجيات مناخية أطول أجلاً، ودعم القواعد التنظيمية التي تحفز على التوسع
في المباني العديمة الانبعاثات، وهو يعني أيضاً إعطاء الأولوية لقوانين الطاقة الإلزامية
الخاصة بالمباني، إلى جانب التوسُّع في تدابير التصديق والعمل بشكل وثيق على تسهيل
اعتمادها وتنفيذها، مع اتباع نُهج أكثر مرونة تحقق تخفيضًا بنسبة 100% في الانبعاثات
التشغيلية (أو المجسدة) عبر مجموعة من المباني، بدلاً من السعي لإزالة الكربون بالكامل
من كل مبنى، نظراً لأنها تجمع بين حلول فعالة من حيث التكلفة وقابلة للتحقيق تقنياً،
مثل كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة، حيث إن المباني الخالية من الكربون تتمتع بإمكانيات
ملحوظة لتحويل المدن إلى مدن مستدامة.
كما ستعمل المباني الخالية من الكربون على تعزيز قيادة
الحكومة والصناعة والمجتمع المدني لضمان الالتزام بأهداف طموحة، لذا يجب تحسين التعاون
عبر مستويات الحكومة، لأنه سيؤدي إلى نجاح أكبر في إزالة الكربون عن قطاع البناء.
وبالنسبة
لجميع الجهات الفاعلة الأخرى فإن ذلك يعني اعتماد مفاهيم تتمحور حول الاقتصاد الدائري
للحد من الطلب على مواد البناء، وخفض الكربون الملازم، واعتماد الحلول المستمدة من
الطبيعة التي تعزز مرونة المباني، وهو يعني إدماج مبادئ الصحة في إقامة المباني الجديدة،
وتجديد المنازل القائمة لحماية شاغليها.
وعندئذ فقط سنكون متوافقين تماماً مع
أهداف التنمية المستدامة؛ وعندها فقط سيكون لدينا قطاع للمباني والتشييد صفري الانبعاثات،
متسم بالكفاءة، والقدرة على الصمود، بما يكفل لنا حماية سبل العيش في الحاضر والمستقبل.